الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      ابن دحية

                                                                                      الشيخ العلامة المحدث الرحال المتفنن مجد الدين أبو الخطاب عمر بن حسن بن علي بن الجميل - واسم الجميل محمد بن فرح بن خلف بن قومس بن مزلال بن ملال بن أحمد بن بدر بن دحية بن خليفة الكلبي الداني ثم السبتي

                                                                                      هكذا ساق نسبه ، وما أبعده من الصحة والاتصال ! وكان يكتب لنفسه : ذو النسبتين بين دحية والحسين .

                                                                                      قال أبو عبد الله الأبار كان يذكر أنه من ولد دحية -رضي الله عنه- ، [ ص: 390 ] وأنه سبط أبي البسام الحسيني . سمع أبا بكر بن الجد ، وأبا القاسم بن بشكوال ، وأبا عبد الله بن المجاهد ، وأبا عبد الله بن زرقون ، وأبا القاسم بن حبيش ، وأبا محمد بن عبيد الله ، وأبا محمد بن بونه . وحدث بتونس ب " صحيح مسلم " عن طائفة ، وروى عن آخرين منهم أبو عبد الله بن بشكوال ، وقال : سمعت منه كتاب " الصلة " ، وأبو عبد الله بن المناصف ، وأبو القاسم بن دحمان ، وصالح بن عبد الملك ، وأبو إسحاق بن قرقول ، وأبو العباس بن سيده ، وأبو عبد الله بن عميرة ، وأبو خالد بن رفاعة ، وأبو القاسم بن رشد الوراق ، وأبو عبد الله القباعي ، وأبو بكر بن مغاور .

                                                                                      قال : وكان بصيرا بالحديث معتنيا بتقييده ، مكبا على سماعه ، حسن الخط ، معروفا بالضبط ، له حظ وافر من اللغة ومشاركة في العربية وغيرها . ولي قضاء دانية مرتين ، وصرف لسيرة نعتت عليه ، فرحل ، ولقي بتلمسان أبا الحسن بن أبي حيون ، فحمل عنه ، وحدث بتونس في سنة 595 ، ثم حج . وكتب بالمشرق : بأصبهان ، ونيسابور عن أصحاب الحداد والفراوي ، وعاد إلى مصر فاستأدبه الملك العادل لابنه الكامل ولي عهده ، وأسكنه القاهرة فنال بذلك دنيا عريضة ، وكان يسمع ويدرس . وله تواليف ، منها كتاب " إعلام النص المبين في المفاصلة بين أهل صفين " .

                                                                                      قلت : سمع من أبي القاسم البوصيري بمصر ، ومن أبي جعفر الصيدلاني بأصبهان ، ومن منصور الفراوي بنيسابور ; سمع بها " صحيح مسلم " عاليا ، بعد أن رواه نازلا ، وحدث بدمشق وسمع بها ، وسمع بواسط من أبي الفتح المندائي ، سمع منه " مسند أحمد " . [ ص: 391 ]

                                                                                      روى عنه ابن الدبيثي ، فقال كان له معرفة حسنة بالنحو واللغة ، وأنسة بالحديث ، فقيها على مذهب مالك ، وكان يقول : إنه حفظ " صحيح مسلم " جميعه ، وإنه قرأه على شيخ بالمغرب من حفظه ، ويدعي أشياء كثيرة . ولابن عنين فيه :

                                                                                      دحية لم يعقب فلم تعتزي إليه بالبهتان والإفك     ما صح عند الناس سوى
                                                                                      أنك من كلب بلا شك

                                                                                      قلت : كان هذا الرجل صاحب فنون وتوسع ويد في اللغة ، وفي الحديث على ضعف فيه .

                                                                                      قال ابن مسدي : رأيت بخطه أنه سمع قبل سنة سبعين من جماعة كأبي بكر بن خليل ، واللواتي ، وابن حنين ، قال : وليس ينكر عليه ، ثم لم يزل يسمع حتى سمع من أقرانه ، وحصل ما لم يحصله غيره .

                                                                                      قال الضياء : لقيته بأصبهان ، ولم أسمع منه ، ولم يعجبني حاله ; كان كثير الوقيعة في الأئمة . وأخبرني إبراهيم السنهوري بأصبهان أنه دخل المغرب ، وأن مشايخ المغرب كتبوا له جرحه وتضعيفه .

                                                                                      قال الضياء : وقد رأيت منه غير شيء مما يدل على ذلك .

                                                                                      وقال ابن نقطة كان موصوفا بالمعرفة والفضل ولم أره ، إلا أنه كان يدعي أشياء لا حقيقة لها ، ذكر لي أبو القاسم بن عبد السلام : ثقة ، قال : نزل [ ص: 392 ] عندنا ابن دحية فكان يقول : أحفظ " صحيح مسلم " و " الترمذي " قال : فأخذت خمسة أحاديث من " الترمذي " وخمسة من " المسند " وخمسة من الموضوعات فجعلتها في جزء ، ثم عرضت عليه حديثا من الترمذي ، فقال : ليس بصحيح ، وآخر فقال : لا أعرفه ، ولم يعرف منها شيئا !

                                                                                      وقال ابن واصل الحموي : كان ابن دحية مع فرط معرفته بالحديث وحفظه الكثير له متهما بالمجازفة في النقل ، وبلغ ذلك الملك الكامل فأمره أن يعلق شيئا على كتاب الشهاب ، فعلق كتابا تكلم فيه على أحاديثه وأسانيده ، فلما وقف الكامل على ذلك خلاه أياما وقال : ضاع ذاك الكتاب فعلق لي مثله ، ففعل ، فجاء الثاني فيه مناقضة للأول ، فعلم السلطان صحة ما قيل عنه ، ونزلت مرتبته عنده ، وعزله من دار الحديث التي أنشأها آخرا ، وولاها أخاه أبا عمرو .

                                                                                      قرأت بخط ابن مسدي في " معجمه " ، قال : كان والد ابن دحية تاجرا يعرف بالكلبي - بين الفاء والباء - وهو اسم موضع بدانية ، وكان أبو الخطاب أولا يكتب " الكلبي معا " إشارة إلى المكان والنسب ، وإنما كان يعرف بابن الجميل تصغير جمل . قال : وكان أبو الخطاب علامة زمانه ، وقد ولي أولا قضاء دانية .

                                                                                      قلت : وذكر أن سبب عزل ابن دحية أنه خصى مملوكا له فغضب الملك ، وهرب ابن دحية . ولفظ ابن مسدي ، قال : كان له مملوك يسمى [ ص: 393 ] ريحان ، فجبه واستأصل أنثييه وزبه وأتى بزامر فأمر بثقب شدقه ، فغضب عليه المنصور ، وجاءه النذير ، فاختفى ، ثم سار متنكرا .

                                                                                      قلت : وكان ممن يترخص في الإجازة ، ويطلق عليها " حدثنا " . وقد سمع منه أبو عمرو بن الصلاح " الموطأ " بعيد سنة ستمائة . وأخبره به عن جماعة منهم : أبو عبد الله بن زرقون بإجازته من أحمد بن محمد الخولاني ، أخبرنا أبو عمرو القيشطالي سماعا ، أخبرنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله .

                                                                                      وقال ابن دحية مرة أخرى : حدثني القاضي علي بن الحسين اللواتي ، وابن زرقون قالا : حدثنا الخولاني .

                                                                                      وقد قرأت بخط الحافظ علم الدين القاسم أنه قرأ بخط ابن الصلاح : سمعت " الموطأ " على الحافظ ابن دحية . وحدثنا به بأسانيد كثيرة جدا ، وأقربها ما حدثه به الفقيهان أبو الحسن علي بن حنين الكناني ، والمحدث أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن خليل القيسي قالا : حدثنا محمد بن فرج بن الطلاع ، وأبو بكر خازم بن محمد قالا : حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث .

                                                                                      قال ابن الذهبي : لم يلق ابن دحية هذين ، وبالجهد أن تكون روايته عنهما إجازة ، وكانا ببلاد العدوة ، لم يكونا بالأندلس ، فكان القيسي بمراكش ، وكان ابن حنين بفاس ، ولمتأخري المغاربة مذهب في إطلاق " حدثنا " على الإجازة ، وهذا تدليس . [ ص: 394 ]

                                                                                      قال التقي عبيد أبو الخطاب ذو النسبين صاحب الفنون والرحلة الواسعة ، له المصنفات الفائقة والمعاني الرائقة ، كان معظما عند الخاص والعام ، سئل عن مولده فقال : سنة ست وأربعين وخمسمائة وحكي عنه في مولده غير ذلك .

                                                                                      قلت : فقيل : سنة أربع وأربعين وخمسمائة وقيل : سنة ثمان وأربعين وخمسمائة .

                                                                                      روى عنه بالإجازة شيخانا شرفا الدين أبو الحسين اليونيني ، وابن خواجا إمام ، وغيرهما .

                                                                                      قرأت بخط الحافظ الضياء : أن ابن دحية توفي ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة .

                                                                                      قال ابن النجار قدم علينا وأملى من حفظه ، وذكر أنه سمع من ابن الجوزي وسمع بأصبهان " معجم الطبراني " من الصيدلاني ، وسمع بنيسابور وبمرو وواسط ، وأنه سمع من جماعة بالأندلس ، غير أني رأيت الناس مجمعين على كذبه وضعفه وادعائه ما لم يسمعه ، وكانت أمارات ذلك لائحة على كلامه وفي حركاته ، وكان القلب يأبى سماع كلامه . سكن مصر ، وصادف قبولا من السلطان الكامل ، وأقبل عليه إقبالا عظيما ، وسمعت أنه كان يسوي له المداس حين يقوم . إلى أن قال : ونسبه ليس بصحيح . وكان حافظا ماهرا تام المعرفة بالنحو واللغة ، ظاهري المذهب ، كثير الوقيعة في [ ص: 395 ] السلف ، أحمق ، شديد الكبر ، خبيث اللسان ، متهاونا في دينه ، وكان يخضب بالسواد .

                                                                                      حكى ابن النجار في " تاريخه " وابن العديم في " تاريخ حلب " وأبو صادق محمد بن العطار ، وابن المستوفي في " تاريخه " عنه أشياء تسقطه .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية