الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      ابن الجصاص

                                                                                      الصدر الرئيس ، ذو الأموال ، أبو عبد الله ، الحسين بن عبد الله بن الجصاص ، البغدادي الجوهري التاجر الصفار .

                                                                                      قال ابن طولون : لا يباع لنا شيء إلا على يد ابن الجصاص .

                                                                                      وعنه قال : كنت يوما في الدهليز ، فخرجت قهرمانة معها مائة حبة جوهر ، تساوي الحبة ألف دينار ، فقالت : نريد أن تخرط هذا الحب حتى يصغر ، فأخذته منها مسرعا ، وجمعت سائر نهاري من الحب بمائة ألف درهم ، الواحدة بألف ، وأتيت به القهرمانة ، وقلت : قد خرطنا هذا .

                                                                                      [ ص: 470 ] يعني : فربح فيه -في يوم- بضعة وتسعين ألف دينار ولما تزوج المعتضد بالله بقطر الندى بنت خمارويه صاحب مصر ، نفذها أبوها مع ابن الجصاص في جهاز عظيم وتحف وجواهر تتجاوز الوصف ، فنصحها ابن الجصاص وقال : هذا شيء كثير ، والأوقات تتغير ، فلو أودعه من هذا؟ فقالت : نعم يا عم . وأودعته نفائس ثمينة ، فاتفق أنها أدخلت على المعتضد ، وكرمت عليه ، وحملت منه ، ثم ماتت في النفاس بغتة ، وزادت أموال ابن الجصاص إلى الغاية ، ونظرت إليه الأعين ، فلما كان في سنة اثنتين وثلاثمائة قبض عليه المقتدر ، وكبست داره ، وأخذوا له من الذهب والجوهر ما قوم بأربعة آلاف ألف دينار .

                                                                                      وقال أبو الفرج في " المنتظم " أخذوا منه ما مقداره ستة عشر ألف ألف دينار عينا ، وورقا ، وخيلا ، وقماشا ، فقيل : كان جل ماله من بنت خمارويه .

                                                                                      وحكى بعضهم قال : دخلت دار ابن الجصاص والقباني بين يديه يقبن سبائك الذهب .

                                                                                      قال التنوخي حدثني أبو الحسين بن عياش أنه سمع جماعة من ثقات الكتاب يقولون : إنهم حضروا مصادرة ابن الجصاص ، فكانت ستة آلاف ألف دينار ، هذا سوى ما أخذ من داره وبعدما بقي له .

                                                                                      قال التنوخي : لما صودر كان في داره سبعمائة مزملة خيزران .

                                                                                      ويحكى عنه بله وتغفيل ، مر به صديق ، فقال له : كيف أنت؟ فقال [ ص: 471 ] ابن الجصاص : الدنيا كلها محمومة . وكان قد حم . ونظر مرة في المرآة ، فقال لصاحبه : ترى لحيتي طالت؟ فقال : المرآة في يدك . قال : الشاهد يرى ما لا يرى الغائب .

                                                                                      ودخل يوما على الوزير ابن الفرات ، فقال : عندنا كلاب يحرموننا ننام . فقال الوزير : لعلهم جراء؟ قال : بل كل واحد في قدي وقدك .

                                                                                      ودعا فقال : حسبي الله وأنبياؤه وملائكته ، اللهم أعد من بركة دعائنا على أهل القصور في قصورهم ، وعلى أهل الكنائس في كنائسهم .

                                                                                      وفرغ من الأكل فقال : الحمد لله الذي لا يحلف بأعظم منه .

                                                                                      وكان مع الخاقاني في مركب وبيده كرة كافور ، فبصق في وجه الوزير ، وألقى الكافورة في دجلة ، ثم أفاق واعتذر ، وقال : إنما أردت أن أبصق في وجهك وألقيها في الماء فغلطت . فقال : كان كذلك يا جاهل .

                                                                                      قال التنوخي حدثنا جعفر بن ورقاء الأمير قال : اجتزت بابن الجصاص -وكان مصاهري- ، فرأيته على حوش داره حافيا حاسرا ، يعدو كالمجنون ، فلما رآني استحيى ، فقلت : ما لك؟ قال : يحق لي ، أخذوا مني أمرا عظيما ، فسلمته وقلت : ما بقي يكفي ; وإنما يقلق هذا القلق من يخاف الحاجة ، فاصبر حتى أبين لك غناك . قال : هات . قلت : أليس دارك هذه بآلتها وفرشها لك؟ وعقارك بالكرخ وضياعك؟ قال : بلى .

                                                                                      فما زلت أحاسبه حتى بلغ قيمة سبعمائة ألف دينار ، ثم قلت : واصدقني عما سلم لك ، فحسبناه ، فإذا هو بثلاثمائة ألف دينار ، قلت : فمن له ألف [ ص: 472 ] ألف دينار ببغداد؟ ! هذا وجاهك قائم ، فلم تغتم؟ فسجد لله وحمده ، وبكى ، وقال : أنقذني الله بك ، ما عزاني أحد بأنفع من تعزيتك ما أكلت شيئا منذ ثلاث ، فأقم عندي لنأكل ونتحدث . فأقمت عنده يومين .

                                                                                      قال التنوخي اجتمعت بأبي علي -ولد ابن الجصاص - فسألته عما يحكى عن أبيه من أن الإمام قرأ : ولا الضالين فقال : إي لعمري . بدلا من آمين .

                                                                                      وأنه أراد أن يقبل رأس الوزير ، فقال : إن فيه دهنا . فقال : أقبله ولو كان فيه خرا .

                                                                                      وأنه وصف مصحفا عتيقا فقال : كسروي؟ فقال غالبه كذب ، وما كانت فيه سلامة تخرجه إلى هذا ، كان من أدهى الناس ، ولكن كان يفعل بحضرة الوزير ، وكان يحب أن يصور نفسه ببله ليأمنه الوزراء لكثرة خلوته بالخلفاء . فأنا أحدثك بحديث : حدثني أبي أن ابن الفرات لما وزر ، قصدني قصدا قبيحا كان في نفسه علي ، وبالغ ، وكان عندي ذلك الوقت سبعة آلاف ألف دينار ، عينا وجوهرا ، ففكرت ، فوقع لي الرأي في السحر ، فمضيت إلى داره ، فدققت ، فقال البوابون : ما ذا وقت وصول إليه؟

                                                                                      فقلت : عرفوا الحجاب أني جئت لمهم ، فعرفوهم ، فخرج إلي حاجب فقال : إلى ساعة . فقلت : الأمر أهم من ذلك ، فنبه الوزير ، ودخلت وحول سريره خمسون نفسا حفظة وهو مرتاع ، فرفعني [ ص: 473 ] وقال : ما الأمر؟ قلت : خير ، هو أمر يخصني ، فسكن ، وصرف من حوله ، فقلت : إنك قصدتني وشرعت يا هذا تؤذيني وتتفرغ لي ، وتعمل في هلاكي ، ولعمري لقد أسأت في خدمتك ، وقد جهدت في استصلاحك ، فلم يغن ، وليس شيء أضعف من الهر ، وإذا عاث في دكان الفامي فظفر به ولزه ، وثب وخمش ، فإن صلحت لي وإلا -والله- لأقصدن الخليفة ، وأحمل إليه ألفي ألف دينار ، وأقول : سلم ابن الفرات إلى فلان وأعطه الوزارة ، فيفعل ويعذبك ويأخذ منك في قدرها ، ويعظم قدري بعزلي وزيرا وإقامتي وزيرا .

                                                                                      فقال : يا عدو الله ، وتستحل هذا؟ قلت : أنت أحوجتني ، وإلا فاحلف لي الساعة على إنصافي ، فقال : وتحلف أنت كذلك : وعلي حسن الطاعة والمؤازرة . قلت : نعم ، فقال : لعنك الله يا إبليس ، لقد سحرتني . وأخذ دواة ، وعملنا نسخة اليمين ، وحلفته أولا ، ثم قال : يا أبا عبد الله ، لقد عظمت في نفسي ، ما كان المقتدر عنده فرق بين كفاءتي وبين أصغر كتابي مع الذهب ، فاكتم ما جرى . فقلت : سبحان الله! ثم قال : تعال غدا ، فسترى ما أعاملك به . فعدت إلى داري . وما طلع الفجر . فقال ابنه : أفهذا فعل من يحكى عنه تلك الحكايات؟ قلت : لا .

                                                                                      قلت : لعل بهذه الحركة أضمر له الوزير الشر ، فنسأل الله السلامة . توفي ابن الجصاص في شوال سنة خمس عشرة وثلاثمائة وقد أسن .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية