الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      أبو عبيد ( د )

                                                                                      الإمام الحافظ المجتهد ذو الفنون أبو عبيد ، القاسم بن سلام بن عبد الله .

                                                                                      [ ص: 491 ] كان أبوه سلام مملوكا روميا لرجل هروي . يروى أنه خرج يوما وولده أبو عبيد مع ابن أستاذه في المكتب ، فقال للمعلم : علمي القاسم فإنها كيسة .

                                                                                      مولد أبي عبيد سنة سبع وخمسين ومائة .

                                                                                      وسمع : إسماعيل بن جعفر ، وشريك بن عبد الله ، وهشيما ، وإسماعيل بن عياش ، وسفيان بن عيينة ، وأبا بكر بن عياش ، وعبد الله بن المبارك ، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي ، وعبيد الله الأشجعي ، وغندرا ، وحفص بن غياث ، ووكيعا ، وعبد الله بن إدريس ، وعباد بن عباد ، ومروان بن معاوية ، وعباد بن العوام ، وجرير بن عبد الحميد ، وأبا معاوية الضرير ، ويحيى القطان ، وإسحاق الأزرق ، وابن مهدي ، ويزيد بن هارون ، وخلقا كثيرا ، إلى أن ينزل إلى رفيقه هشام بن عمار ، ونحوه .

                                                                                      وقرأ القرآن على أبي الحسن الكسائي ، وإسماعيل بن جعفر ، وشجاع بن أبي نصر البلخي ، وسمع الحروف من طائفة .

                                                                                      وأخذ اللغة عن أبي عبيدة ، وأبي زيد ، وجماعة .

                                                                                      وصنف التصانيف المونقة التي سارت بها الركبان . وله مصنف في القراءات لم أره ، وهو من أئمة الاجتهاد ، له كتاب " الأموال " في مجلد كبير سمعناه بالاتصال . وكتاب " الغريب " مروي أيضا ، وكتاب " فضائل القرآن " وقع لنا ، وكتاب " الطهور " ، وكتاب " الناسخ والمنسوخ " وكتاب " المواعظ " ، وكتاب " الغريب المصنف في علم [ ص: 492 ] اللسان " ، وغير ذلك وله بضعة وعشرون كتابا .

                                                                                      حدث عنه : نصر بن داود ، وأبو بكر الصاغاني ، وأحمد بن يوسف التغلبي ، والحسن بن مكرم ، وأبو بكر بن أبي الدنيا ، والحارث بن أبي أسامة ، وعلي بن عبد العزيز البغوي ، ومحمد بن يحيى المروزي ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، وعباس الدوري ، وأحمد بن يحيى البلاذري ، وآخرون .

                                                                                      قال ابن سعد كان أبو عبيد مؤدبا صاحب نحو وعربية ، وطلب للحديث والفقه ، ولي قضاء طرسوس أيام الأمير ثابت بن نصر الخزاعي ولم يزل معه ومع ولده ، وقدم بغداد ، ففسر بها غريب الحديث ، وصنف كتبا ، وحدث ، وحج ، فتوفي بمكة سنة أربع وعشرين .

                                                                                      وقال أبو سعيد بن يونس في " تاريخه " : قدم أبو عبيد مصر مع يحيى بن معين سنة ثلاث عشرة ومائتين ، وكتب بها .

                                                                                      وقال علي بن عبد العزيز : ولد بهراة ، وكان أبوه عبدا لبعض أهلها . وكان يتولى الأزد .

                                                                                      قال عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي : ومن علماء بغداد المحدثين النحويين على مذهب الكوفيين ، ورواة اللغة والغريب عن [ ص: 493 ] البصريين ، والعلماء بالقراءات ، ومن جمع صنوفا من العلم ، وصنف الكتب في كل فن أبو عبيد . وكان مؤدبا لأهل هرثمة وصار في ناحية عبد الله بن طاهر ، وكان ذا فضل ودين وستر ، ومذهب حسن ، روى عن أبي زيد ، وأبي عبيدة ، والأصمعي ، واليزيدي ، وغيرهم من البصريين ، وروى عن ابن الأعرابي ، وأبي زياد الكلابي ، والأموي ، وأبي عمرو الشيباني ، والأحمر .

                                                                                      نقل الخطيب في " تاريخه " وغيره : أن طاهر بن الحسين حين سار إلى خراسان ، نزل بمرو ، فطلب رجلا يحدثه ليلة ، فقيل : ما هاهنا إلا رجل مؤدب ، فأدخلوا عليه أبا عبيد ، فوجده أعلم الناس بأيام الناس والنحو واللغة والفقه . فقال له : من المظالم تركك أنت بهذه البلدة ، فأعطاه ألف دينار ، وقال له : أنا متوجه إلى حرب ، وليس أحب استصحابك شفقا عليك ، فأنفق هذه إلى أن أعود إليك ، فألف أبو عبيد " غريب المصنف " وعاد طاهر بن الحسين من ثغر خراسان ، فحمل معه أبا عبيد إلى سر من رأى ، وكان أبو عبيد ثقة دينا ورعا كبير الشأن .

                                                                                      قال ابن درستويه : ولأبي عبيد كتب لم يروها ، قد رأيتها في ميراث بعض الطاهرية تباع كثيرة في أصناف الفقه كله ، وبلغنا أنه كان إذا ألف كتابا أهداه إلى ابن طاهر ، فيحمل إليه مالا خطيرا . وذكر فصلا إلى أن قال : [ ص: 494 ] و " الغريب المصنف " من أجل كتبه في اللغة ، احتذى فيه كتاب النضر بن شميل ، المسمى بكتاب " الصفات " بدأ فيه بخلق الإنسان ، ثم بخلق الفرس ، ثم بالإبل ، وهو أكبر من كتاب أبي عبيد وأجود .

                                                                                      قال : ومنها كتابه في " الأمثال " أحسن تأليفه ، وكتاب " غريب الحديث " ذكره بأسانيده ، فرغب فيه أهل الحديث ، وكذلك كتابه في " معاني القرآن " حدث بنصفه ، ومات .

                                                                                      وله كتب في الفقه ، فإنه عمد إلى مذهب مالك والشافعي ، فتقلد أكثر ذلك ، وأتى بشواهده ، وجمعه من رواياته ، وحسنها باللغة والنحو . وله في القراءات كتاب جيد ، ليس لأحد من الكوفيين قبله مثله ، وكتابه في " الأموال " من أحسن ما صنف في الفقه وأجوده .

                                                                                      [ ص: 495 ] أنبأنا ابن علان ، أخبرنا الكندي ، أخبرنا الشيباني ، أخبرنا الخطيب ، أخبرنا أبو العلاء القاضي ، أخبرنا محمد بن جعفر التميمي ، أخبرنا أبو علي النحوي ، حدثنا الفسطاطي ، قال : كان أبو عبيد مع ابن طاهر ، فوجه إليه أبو دلف بثلاثين ألف درهم ، فلم يقبلها ، وقال : أنا في جنبة رجل ما يحوجني إلى صلة غيره ، ولا آخذ ما علي فيه نقص ، فلما عاد ابن طاهر وصله بثلاثين ألف دينار ، فقال له : أيها الأمير قد قبلتها ، ولكن قد أغنيتني بمعروفك ، وبرك عنها ، وقد رأيت أن أشتري بها سلاحا وخيلا ، وأوجه بها إلى الثغر ليكون الثواب متوفرا على الأمير ، ففعل .

                                                                                      قال عبيد الله بن عبد الرحمن السكري : قال أحمد بن يوسف - إما سمعته منه ، أو حدثت به عنه - قال : لما عمل أبو عبيد كتاب " غريب الحديث " عرض على عبد الله بن طاهر ، فاستحسنه ، وقال : إن عقلا بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب لحقيق أن لا يحوج إلى طلب المعاش ، فأجرى له عشرة آلاف درهم في الشهر . كذا في هذه الرواية ، عشرة آلاف درهم .

                                                                                      وروى غيره بمعناه عن الحارث بن أبي أسامة ، قال : حمل " غريب " أبي عبيد إلى ابن طاهر ، فقال : هذا رجل عاقل . وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بأن يجري عليه في كل شهر خمسمائة درهم . فلما مات ابن طاهر ، [ ص: 496 ] أجرى عليه إسحاق من ماله ذلك ، فلما مات أبو عبيد بمكة ، أجراها على ولده .

                                                                                      ذكر وفاة ابن طاهر هنا وهم ، لأنه عاش مدة بعد أبي عبيد .

                                                                                      وعن أبي عبيد أنه كان يقول : كنت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة ، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال ، فأضعها في الكتاب ، فأبيت ساهرا فرحا مني بتلك الفائدة . وأحدكم يجيئني ، فيقيم عندي أربعة أشهر ، خمسة أشهر ، فيقول : قد أقمت الكثير .

                                                                                      وقيل : إن أول من سمع " الغريب " من أبي عبيد يحيى بن معين .

                                                                                      الطبراني : سمعت عبد الله بن أحمد يقول : عرضت كتاب " غريب الحديث " لأبي عبيد على أبي ، فاستحسنه ، وقال : جزاه الله خيرا .

                                                                                      وروى ابن الأنباري ، عن موسى بن محمد : أنه سمع عبد الله بن أحمد يقول : كتب أبي " غريب الحديث " الذي ألفه أبو عبيد أولا .

                                                                                      قال عبد الله بن محمد بن سيار : سمعت ابن عرعرة يقول : كان طاهر بن عبد الله ببغداد ، فطمع في أن يسمع من أبي عبيد ، وطمع أن يأتيه في [ ص: 497 ] منزله ، فلم يفعل أبو عبيد ، حتى كان هو يأتيه . فقدم علي بن المديني ، وعباس العنبري ، فأرادا أن يسمعا " غريب الحديث " فكان يحمل كل يوم كتابه ، ويأتيهما في منزلهما ، فيحدثهما فيه .

                                                                                      قال جعفر بن محمد بن علي بن المديني : سمعت أبي يقول : خرج أبي إلى أحمد بن حنبل يعوده وأنا معه ، فدخل إليه ، وعنده يحيى بن معين وجماعة ، فدخل أبو عبيد ، فقال له يحيى : اقرأ علينا كتابك الذي عملته للمأمون " غريب الحديث " فقال : هاتوه ، فجاءوا بالكتاب ، فأخذه أبو عبيد فجعل يبدأ يقرأ الأسانيد ، ويدع تفسير الغريب ، فقال أبي : دعنا من الإسناد ، نحن أحذق بها منك . فقال يحيى بن معين لأبي : دعه يقرأ على الوجه ، فإن ابنك معك ، ونحن نحتاج أن نسمعه على الوجه . فقال أبو عبيد : ما قرأته إلا على المأمون ، فإن أحببتم أن تقرءوه ، فاقرءوه . فقال له ابن المديني : إن قرأته علينا ، وإلا لا حاجة لنا فيه ، ولم يعرف أبو عبيد علي بن المديني ، فقال ليحيى : من هذا ؟ فقال : هذا علي بن المديني . فالتزمه ، وقرأه علينا . فمن حضر ذلك المجلس ، جاز أن يقول : حدثنا . وغير ذلك ، فلا يقول .

                                                                                      رواها إبراهيم بن علي الهجيمي ، عن جعفر .

                                                                                      قال أبو بكر بن الأنباري : كان أبو عبيد - رحمه الله - يقسم الليل أثلاثا فيصلي ثلثه ، وينام ثلثه ، ويصنف الكتب ثلثه .

                                                                                      [ ص: 498 ] قال عبد الله بن أبي مقاتل البلخي ، عن أبي عبيد : دخلت البصرة لأسمع من حماد بن زيد ، فقدمت فإذا هو قد مات ، فشكوت ذلك إلى عبد الرحمن بن مهدي فقال : مهما سبقت به ، فلا تسبقن بتقوى الله .

                                                                                      وقال أبو حامد الصاغاني : سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام يقول : فعلت بالبصرة فعلتين أرجو بهما الجنة : أتيت يحيى القطان وهو يقول : أبو بكر وعمر . فقلت : معي شاهدان من أهل بدر يشهدان أن عثمان أفضل من علي . قال : من ؟ قلت : أنت حدثتنا عن شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزال بن سبرة ، قال : خطبنا ابن مسعود ، فقال : أمرنا خير من بقي ، ولم نأل . قال : ومن الآخر ؟ قلت : الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن المسور ، قال : سمعت عبد الرحمن بن عوف يقول : شاورت المهاجرين الأولين ، وأمراء الأجناد ، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلم أر أحدا يعدل بعثمان . قال : فترك يحيى قوله ، وقال : أبو بكر وعمر وعثمان .

                                                                                      قال : وأتيت عبد الله الخريبي ، فإذا بيته بيت خمار . فقلت : ما هذا ؟

                                                                                      قال : ما اختلف فيه أولنا ولا آخرنا . قلت : اختلف فيه أولكم وآخركم .

                                                                                      قال : من ؟ قلت : أيوب السختياني ، عن محمد ، عن عبيدة قال : اختلف علي في الأشربة ، فما لي شراب منذ عشرين سنة إلا عسل أو لبن أو ماء .

                                                                                      قال : ومن آخرنا ؟ قلت : عبد الله بن إدريس . قال : فأخرج كل ما في منزله ، فأهراقه .

                                                                                      أبو عبيد قال : سمعني ابن إدريس أتلهف على بعض الشيوخ ، فقال لي : يا أبا عبيد ، مهما فاتك من العلم ، فلا يفوتنك من العمل .

                                                                                      [ ص: 499 ] الحاكم : سمعت أبا الحسن الكارزي سمعت علي بن عبد العزيز ، سمعت أبا عبيد يقول : المتبع السنة كالقابض على الجمر ، هو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله .

                                                                                      وعن أبي عبيد ، قال : مثل الألفاظ الشريفة ، والمعاني الظريفة مثل القلائد اللائحة في الترائب الواضحة .

                                                                                      قال عباس الدوري : سمعت أبا عبيد يقول : إني لأتبين في عقل الرجل أن يدع الشمس ، ويمشي في الظل .

                                                                                      وبإسنادي إلى الخطيب : أخبرنا أحمد بن علي البادا أخبرنا عبد الله بن جعفر الزبيبي ، حدثنا عبد الله بن العباس الطيالسي ، سمعت الهلال بن العلاء الرقي يقول : من الله على هذه الأمة بأربعة في زمانهم : بالشافعي تفقه بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبأحمد ثبت في المحنة ، لولا ذلك كفر الناس ، وبيحيى بن معين نفى الكذب عن الحديث ، وبأبي عبيد فسر الغريب من الحديث ، ولولا ذلك لاقتحم الناس في الخطأ .

                                                                                      وقال إبراهيم بن أبي طالب : سألت أبا قدامة عن الشافعي ، وأحمد ، [ ص: 500 ] وإسحاق وأبي عبيد ، فقال : أما أفقههم فالشافعي ، لكنه قليل الحديث ، وأما أورعهم فأحمد ، وأما أحفظهم فإسحاق ، وأما أعلمهم بلغات العرب فأبو عبيد .

                                                                                      قال الحسن بن سفيان : سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول : أبو عبيد أوسعنا علما وأكثرنا أدبا ، وأجمعنا جمعا ، إنا نحتاج إليه ، ولا يحتاج إلينا . - سمعها الحاكم من أبي الوليد الفقيه : سمعت الحسن .

                                                                                      وقال أحمد بن سلمة : سمعت إسحاق بن راهويه يقول : الحق يحبه الله عز وجل : أبو عبيد القاسم بن سلام أفقه مني وأعلم مني .

                                                                                      الخطيب في " تاريخه " : حدثني مسعود بن ناصر ، أخبرنا علي بن بشرى ، حدثنا محمد بن الحسين الآبري ، سمعت ابن خزيمة : سمعت أحمد بن نصر المقرئ يقول : قال إسحاق : إن الله لا يستحي من الحق : أبو عبيد أعلم مني ، ومن ابن حنبل ، والشافعي .

                                                                                      قال أبو العباس ثعلب : لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل ، لكان عجبا .

                                                                                      [ ص: 501 ] وقال أحمد بن كامل القاضي : كان أبو عبيد فاضلا في دينه وفي علمه ، ربانيا ، مفننا في أصناف علوم الإسلام من القرآن ، والفقه والعربية والأخبار ، حسن الرواية ، صحيح النقل ، لا أعلم أحدا طعن عليه في شيء من أمره ودينه .

                                                                                      وبلغنا عن عبد الله بن طاهر أمير خراسان قال : الناس أربعة : ابن عباس في زمانه ، والشعبي في زمانه ، والقاسم بن معن في زمانه ، وأبو عبيد في زمانه .

                                                                                      قال إبراهيم بن محمد النساج : سمعت إبراهيم الحربي يقول : أدركت ثلاثة تعجز النساء أن يلدن مثلهم : رأيت أبا عبيد ، ما مثلته إلا بجبل نفخ فيه روح ، ورأيت بشر بن الحارث ، ما شبهته إلا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلا ، ورأيت أحمد بن حنبل ، فرأيت كأن الله قد جمع له علم الأولين ، فمن كل صنف يقول ما شاء ، ويمسك ما شاء .

                                                                                      قال مكرم بن أحمد : قال إبراهيم الحربي : كان أبو عبيد كأنه جبل نفخ فيه الروح ، يحسن كل شيء إلا الحديث صناعة أحمد ويحيى .

                                                                                      وكان أبو عبيد يؤدب غلاما في شارع بشر ، ثم اتصل بثابت بن نصر الخزاعي يؤدب ولده ، ثم ولي ثابت طرسوس ثماني عشرة سنة ، فولى أبا عبيد قضاء طرسوس ثماني عشرة سنة ، فاشتغل عن كتابة الحديث . [ ص: 502 ] كتب في حداثته عن هشيم وغيره ، فلما صنف ، احتاج إلى أن يكتب عن يحيى بن صالح ، وهشام بن عمار .

                                                                                      وأضعف كتبه كتاب " الأموال " يجيء إلى باب فيه ثلاثون حديثا ، وخمسون أصلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيجيء بحديث ، حديثين ، يجمعهما من حديث الشام ، ويتكلم في ألفاظهما ، وليس له كتاب ك " غريب المصنف " .

                                                                                      وانصرف يوما من الصلاة ، فمر بدار إسحاق الموصلي ، فقالوا له : يا أبا عبيد ، صاحب هذه الدار يقول : إن في كتابك " غريب المصنف " ألف حرف خطأ . فقال : كتاب فيه أكثر من مائة ألف يقع فيه ألف ليس بكثير ؟ ! ولعل إسحاق عنده رواية ، وعندنا رواية ، فلم يعلم ، فخطأنا ، والروايتان صواب ، ولعله أخطأ في حروف ، وأخطأنا في حروف ، فيبقى الخطأ يسيرا .

                                                                                      وكتاب " غريب الحديث " فيه أقل من مائتي حرف : سمعت ، والباقي : قال الأصمعى ، وقال أبو عمرو ، وفيه خمسة وأربعون حديثا لا أصل لها ، أتي فيها أبو عبيد من أبي عبيدة معمر بن المثنى .

                                                                                      قال الخطيب فيما أنبأنا ابن علان ، أخبرنا الكندي ، عن الشيباني ، عنه ، حدثني العلاء بن أبي المغيرة ، أخبرنا علي بن بقاء

                                                                                      [ ص: 503 ] أخبرنا عبد الغني الحافظ قال : في كتاب الطهارة لأبي عبيد حديثان ما حدث بهما غير أبي عبيد ، ولا عنه سوى محمد بن يحيى المروزي :

                                                                                      أحدهما : حديث شعبة عن عمرو بن أبي وهب .

                                                                                      والآخر : عبيد الله بن عمر ، عن المقبري ، حدث به القطان ، عن عبيد الله ورواه الناس عن القطان ، عن ابن عجلان .

                                                                                      محمد بن يحيى : حدثنا أبو عبيد : أخبرنا حجاج عن شعبة ، عن عمرو بن أبي وهب الخزاعي عن موسى بن ثروان عن طلحة بن عبيد الله بن كريز ، عن عائشة قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ يخلل لحيته .

                                                                                      إبراهيم بن أحمد المستملي : حدثنا عبد الله بن محمد بن طرخان : سمعت محمد بن عقيل : سمعت حمدان بن سهل يقول : سألت يحيى بن معين عن الكتبة عن أبي عبيد فقال - وتبسم - : مثلي يسأل عن أبي عبيد ؟ ! أبو عبيد يسأل عن الناس ، لقد كنت عند الأصمعي يوما ، إذ أقبل أبو عبيد ، فشق إليه بصره حتى اقترب منه ، فقال : أترون هذا المقبل ؟ [ ص: 504 ]

                                                                                      قالوا : نعم . قال : لن تضيع الدنيا أو الناس ما حيي هذا . روى عبد الخالق بن منصور ، عن ابن معين ، قال : أبو عبيد ثقة .

                                                                                      وقال عباس بن محمد ، عن أحمد بن حنبل : أبو عبيد ممن يزداد عندنا كل يوم خيرا .

                                                                                      وقال أبو داود : أبو عبيد ثقة مأمون .

                                                                                      وقال أبو قدامة : سمعت أحمد بن حنبل يقول : أبو عبيد أستاذ .

                                                                                      وقال الدارقطني : ثقة إمام جبل .

                                                                                      وقال الحاكم : كان ابن قتيبة يتعاطى التقدم في علوم كثيرة ، ولم يرضه أهل علم منها ، وإنما الإمام المقبول عند الكل أبو عبيد .

                                                                                      قال عباس الدوري : سمعت أبا عبيد يقول : عاشرت الناس ، وكلمت أهل الكلام ، فما رأيت قوما أوسخ وسخا ، ولا أضعف حجة من . . . . ولا أحمق منهم ، ولقد وليت قضاء الثغر ، فنفيت ثلاثة ، جهميين . . . . . ، . . . . . . وجهميا .

                                                                                      وقيل : كان أبو عبيد أحمر الرأس واللحية بالخضاب ، وكان مهيبا وقورا .

                                                                                      [ ص: 505 ] قال الزبيدي : عددت حروف " غريب المصنف " ، فوجدته سبعة عشر ألفا وتسعمائة وسبعين حرفا .

                                                                                      قلت : يريد بالحرف اللفظة اللغوية .

                                                                                      أخبرنا أبو محمد بن علوان ، أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، أخبرنا عبد المغيث بن زهير ، حدثنا أحمد بن عبيد الله ، حدثنا محمد بن علي العشاري ، أخبرنا أبو الحسن الدارقطني ، أخبرنا محمد بن مخلد ، أخبرنا العباس الدوري ، سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام - وذكر الباب الذي يروى فيه الرؤية ، والكرسي موضع القدمين وضحك ربنا ، وأين كان ربنا - فقال : هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض ، وهي عندنا حق لا نشك فيها ، ولكن إذا قيل : كيف يضحك ؟ وكيف وضع قدمه ؟ قلنا : لا نفسر هذا ، ولا سمعنا أحدا يفسره .

                                                                                      [ ص: 506 ] قلت : قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم ، وما أبقوا ممكنا ، وآيات الصفات وأحاديثها لم يتعرضوا لتأويلها أصلا ، وهي أهم الدين ، فلو كان تأويلها سائغا أو حتما ، لبادروا إليه ، فعلم قطعا أن قراءتها وإمرارها على ما جاءت هو الحق ، لا تفسير لها غير ذلك ، فنؤمن بذلك ، ونسكت اقتداء بالسلف ، معتقدين أنها صفات لله تعالى ، استأثر الله بعلم حقائقها ، وأنها لا تشبه صفات المخلوقين ، كما أن ذاته المقدسة لا تماثل ذوات المخلوقين ، فالكتاب والسنة نطق بها ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ ، وما تعرض لتأويل ، مع كون الباري قال : لتبين للناس ما نزل إليهم فعلينا الإيمان والتسليم للنصوص ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

                                                                                      قال عبدان بن محمد المروزي : أخبرنا أبو سعيد الضرير قال : كنت عند الأمير عبد الله بن طاهر ، فورد عليه نعي أبي عبيد ، فأنشأ يقول :

                                                                                      يا طالب العلم قد مات ابن سلام وكان فارس علم غير محجام     مات الذي كان فينا ربع أربعة
                                                                                      لم يلق مثلهم أستاذ أحكام     خير البرية عبد الله أولهم
                                                                                      وعامر ، ولنعم التلو يا عام     هما اللذان أنافا فوق غيرهما
                                                                                      والقاسمان ابن معن وابن سلام

                                                                                      ذكر أبا عبيد أبو عمرو الداني في " طبقات القراء " فقال : أخذ القراءة عرضا وسماعا عن الكسائي وعن شجاع ، وعن إسماعيل بن جعفر ، وعن حجاج بن محمد ، وأبي مسهر . إلى أن قال : وهو إمام أهل دهره في [ ص: 507 ] جميع العلوم ، ثقة ، مأمون ، صاحب سنة ، روى عنه القراءات وراقه أحمد بن إبراهيم ، وأحمد بن يوسف ، وعلي بن عبد العزيز ، ونصر بن داود ، وثابت بن أبي ثابت .

                                                                                      قال البخاري وغيره : مات سنة أربع وعشرين ومائتين بمكة .

                                                                                      قال الخطيب : وبلغني أنه بلغ سبعا وستين سنة - رحمه الله .

                                                                                      ولم يتفق وقوع رواية لأبي عبيد في الكتب الستة ، لكن نقل عنه أبو داود شيئا في تفسير أسنان الإبل في الزكاة وحكى أيضا عنه البخاري في كتاب " أفعال العباد " .

                                                                                      أخبرنا أبو بكر محفوظ بن معتوق البزار سنة اثنتين وتسعين وستمائة ، أخبرنا عبد اللطيف بن محمد ( ح ) وأخبرنا أحمد بن إسحاق الغرافي أخبرنا عبد العزيز بن باقا قالا : أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد ، أخبرنا محمد بن الحسين المقومي حضورا ، أخبرنا الزبير بن محمد الأسدي ، أخبرنا علي بن محمد بن مهرويه القزويني ، أخبرنا علي بن عبد العزيز ، أخبرنا أبو عبيد ، أخبرنا هشيم ، أخبرنا منصور ، عن ابن سيرين ، عن ابن عمر ، عن عمر ; أنه سجد في الحج سجدتين ، وقال : إن هذه السورة [ ص: 508 ] فضلت على السور بسجدتين .

                                                                                      وبه : حدثنا أبو عبيد ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن الأعمش ، عن مسلم بن صبيح ، عن شتير بن شكل ، عن علي ، قال : لما كان يوم الأحزاب ، شغلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة العصر ، فصلاها بين صلاتي العشاء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا " .

                                                                                      وبه : حدثنا أبو عبيد : حدثنا ابن أبي زائدة ، ويزيد ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة . عن علي مثل ذلك .

                                                                                      أخبرنا أبو سعيد سنقر بن عبد الله الزيني بحلب ، أخبرنا عبد اللطيف بن يوسف ( ح ) وأخبرنا أبو جعفر بن علي السلمي ، أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم الفقيه سنة ثلاث وعشرين وستمائة ، قالا : أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة ، أخبرنا طراد بن محمد ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن علي سنة اثنتي عشرة وأربعمائة ، أخبرنا حامد بن محمد الهروي ، حدثنا علي بن عبد [ ص: 509 ] العزيز ، حدثنا أبو عبيد ، حدثنا عباد بن عباد ، أخبرنا أبو جمرة عن ابن عباس ، قال : قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا من هذا الحي من ربيعة ، وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر ، فلا نخلص إليك إلا في شهر حرام ، فمرنا بأمر نعمل به ، وندعو إليه من وراءنا . فقال : " آمركم بأربع ، وأنهاكم عن أربع ، الإيمان بالله - ثم فسرها لهم - شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم ، وأنهاكم عن الدباء ، والحنتم ، والنقير ، والمقير " متفق عليه .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية