الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 329 ] ذكر يونس بن متى

وكان أمره من الأحداث أيام ملوك الطوائف .

قيل : لم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه إلا عيسى بن مريم ويونس بن متى ، وهي أمه ، وكان من قرية من قرى الموصل يقال لها نينوى ، وكان قومه يعبدون الأصنام ، فبعثه الله إليهم بالنهي عن عبادتها والأمر بالتوحيد ، فأقام فيها ثلاثا وثلاثين سنة يدعوهم ، فلم يؤمن غير رجلين ، فلما أيس من إيمانهم دعا عليهم ، فقيل له : ما أسرع ما دعوت على عبادي ! ارجع إليهم فادعهم أربعين يوما ، فدعاهم سبعة وثلاثين يوما ، فلم يجيبوه فقال لهم : إن العذاب يأتيكم إلى ثلاثة أيام ، وآية ذلك ألوانكم تتغير ، فلما أصبحوا تغيرت ألوانهم ، فقالوا : قد نزل بكم ما قال يونس ولم نجرب عليه كذبا فانظروا فإن بات فيكم فأمنوا من العذاب ، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب يصبحكم .

فلما كانت ليلة الأربعين أيقن يونس بنزول العذاب ، فخرج من بين أظهرهم . فلما كان الغد تغشاهم العذاب فوق رءوسهم ، خرج عليهم غيم أسود هائل يدخن دخانا شديدا ، ثم نزل إلى المدينة فاسودت منه سطوحهم ، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك ، فطلبوا يونس فلم يجدوه ، فألهمهم الله التوبة ، فأخلصوا النية في ذلك وقصدوا شيخا وقالوا له : قد نزل بنا ما ترى فما نفعل ؟ فقال : آمنوا بالله وتوبوا وقولوا : يا حي يا قيوم ، يا حي حين لا حي ، يا حي محيي الموتى ، يا حي لا إله إلا أنت . فخرجوا من القرية إلى مكان رفيع في براز من الأرض ، وفرقوا بين كل دابة وولدها ، ثم عجوا إلى الله واستقالوه [ ص: 330 ] وردوا المظالم جميعا حتى إن كان أحدهم ليقلع الحجر من بنائه فيرده إلى صاحبه .

فكشف الله عنهم العذاب ، وكان يوم عاشوراء يوم الأربعاء ، وقيل : للنصف من شوال يوم الأربعاء ، وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار فقال : ما فعل أهل القرية ؟ فقال : تابوا إلى الله فقبل منهم وأخر عنهم العذاب . فغضب يونس عند ذلك فقال : والله لا أرجع كذابا ! ، ولم تكن قرية رد الله عنهم العذاب بعدما غشيهم إلا قوم يونس ، ومضى غاضبا لربه . وكان في حدة وعجلة وقلة صبر ، ولذلك نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون مثله ، فقال تعالى : ( ولا تكن كصاحب الحوت ) .

ولما مضى ظن أن الله لا يقدر عليه ، أي يقضي عليه العقوبة ، وقيل : يضيق عليه الحبس ، فسار حتى ركب في سفينة فأصاب أهلها عاصف من الريح ، وقيل : بل وقفت فلم تسر ، فقال من فيها : هذه بخطيئة أحدكم ! فقال يونس : هذه خطيئتي فألقوني في البحر ، فأبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم ( فساهم فكان من المدحضين ) ، فلم يلقوه ، وفعلوا ذلك ثلاثا ولم يلقوه ، فألقى نفسه في البحر ، وذلك تحت الليل ، فالتقمه الحوت ، فأوحى الله إلى الحوت أن يأخذه ولا يخمش له لحما ولا يكسر له عظما ، فأخذه وعاد إلى مسكنه من البحر ، فلما انتهى إليه سمع يونس حسا فقال في نفسه : ما هذا ؟ فأوحى الله إليه في بطن الحوت : إن هذا تسبيح دواب البحر ، فسبح وهو في بطن الحوت ، فسمعت الملائكة تسبيحه ، فقالوا : ربنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة . فقال : ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر . فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد له كل يوم عمل صالح ؟ فشفعوا له عند ذلك ، ( فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) - ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل - ! وكان قد سبق له من العمل الصالح ، فأنزل الله فيه : ( فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ) وذلك أن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر ( فنبذناه بالعراء وهو سقيم ) ، ألقي على ساحل البحر [ ص: 331 ] وهو كالصبي المنفوس ، ومكث في بطن الحوت أربعين يوما ، وقيل : عشرين يوما ، وقيل : ثلاثة أيام ، وقيل : سبعة أيام ، والله أعلم .

وأنبت الله عليه شجرة من يقطين ، وهو القرع ، يتقطر إليه من اللبن ، وقيل : هيأ الله له أروية وحشية ، فكانت ترضعه بكرة وعشية حتى رجعت إليه قوته وصار يمشي ، فرجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها قد يبست ، فحزن وبكى عليها ، فعاتبه الله ، وقيل له : أتبكي وتحزن على الشجرة ولا تحزن على مائة ألف وزيادة أردت أن تهلكهم ! .

ثم إن الله أمره أن يأتي قومه فيخبرهم أن الله تاب عليهم ، فعمد إليهم ، فلقي راعيا ، فسأله عن قوم يونس ، فأخبره أنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم ، قال : فأخبرهم أنك قد لقيت يونس . قال : لا أستطيع إلا بشاهد فسمى له عنزا من غنمه والبقعة التي كانا فيها وشجرة هناك ، وقال : كل هذه تشهد لك ، فرجع الراعي إلى قومه فأخبرهم أنه رأى يونس ، فهموا به ، فقال : لا تعجلوا حتى أصبح . فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقي فيها يونس فاستنطقها ، فشهدت له ، وكذلك الشاة والشجرة وكان يونس قد اختفى هناك . فلما شهدت الشاة قالت لهم : إن أردتم نبي الله فهو بمكان كذا وكذا فأتوه ، فلما رأوه قبلوا يديه ورجليه وأدخلوه المدينة بعد امتناع ، فمكث مع أهله وولده أربعين يوما وخرج سائحا ، وخرج الملك معه يصحبه ، وسلم الملك إلى الراعي ، فأقام يدبر أمرهم أربعين سنة بعد ذلك . ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك .

[ ص: 332 ] وقال ابن عباس وشهر بن حوشب : كانت رسالة يونس بعدما نبذه الحوت ، وقالا : كذلك : أخبر الله تعالى في سورة الصافات فإنه قال : ( فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) . وقال شهر : إن جبرائيل أتى يونس فقال له : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم العذاب فإنه قد حضرهم . قال : ألتمس دابة . قال : الأمر أعجل من ذلك . قال : قال : ألتمس حذاء . قال : الأمر أعجل من ذلك . قال : فغضب وانطلق إلى السفينة فركب ، فلما ركب احتبست ، قال : فساهموا ، فسهم ، فجاءت الحوت ، فنودي الحوت : إنا لم نجعل يونس من رزقك إنما جعلناك له حرزا ، فالتقمه الحوت وانطلق به من ذلك المكان حتى مر به الأبلة ، ثم انطلق به على دجلة حتى ألقاه بنينوى .

التالي السابق


الخدمات العلمية