الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ وقوع النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم ] وأما النسيان : فلا امتناع في تجويز وقوعه من الأنبياء فيما لا يتعلق بالتكليف . قال ابن عطية : وكذلك ما أراد الله من نبيه نسيانه ، ولم يرد أن يكتب قرآنا . وأما ما يتعلق بالتكليف ، فاختلفوا فيه . قال ابن القشيري : والذي نقطع به أنه لا يمتنع وقوعه عقلا إلا أن نقول : النبي لا يقع في نسيان ، ونقيم المعجزة عليه ، وإذا ثبت جوازه عقلا ، فالظواهر تدل على وقوعه ، وقال قوم : لا يقرون عليه ، بل ينبهون على قرب ، وهذا لا يحصل فيه ، ولا يمتنع التراخي في التقرير عليه ، ولكن لا ينقرض زمانهم وهم مستمرون على النسيان ، وادعى فيه الإجماع للمسلمين . قال ابن القشيري : ما أمر بتبليغه فنسي ، فالحكم كما قال : فأما ما أمر [ ص: 19 ] به ثم نسي ، فلا أبعد أن ينسى ثم لا يتذكر حتى ينقرض زمانه ، وهو مستمر على النسيان ، مثل أن ينسى صلاة ، ثم لا يتذكرها . ا هـ . وفصل ابن عطية في الكلام على النسخ بين ما لا يحفظه أحد من الصحابة ، فالنبي معصوم من النسيان قبل التبليغ وبعده ، فإن حفظه جاز عليه ما يجوز على البشر ; لأنه قد بلغ وأدى الأمانة ، ومنه قول أبي : حسبت أنها رفعت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { لم ترفع ، ولكن نسيتها } . وقال : ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وكثير من الأئمة إلى امتناع النسيان ، وذهب القاضي إلى جوازه ، وأما الإمام الرازي فادعى في بعض كتبه الإجماع على الامتناع ، وحكى الخلاف في بعضها .

                                                      قال الشيخ كمال الدين بن الزملكاني : الظاهر أن ما طريقه التبليغ فيه مما يقطع بدخوله تحت دلالة المعجزة على الصدق ، فهذا هو محل الإجماع ، وما طريقه التبليغ والبيان للشرائع فهو محل الخلاف ، فيحمل كلام الرازي على ذلك . وقد أشار إلى هذا التفصيل القاضي وإمام الحرمين وغيرهما ، وحاصل الخلاف يرجع إلى أن ذلك هل هو داخل تحت دلالة المعجزة على التصديق ، أم لا ؟ فمن جعله داخلا فيها منعه ، وقال : لو جاز تبعضت دلالة المعجزة على التصديق ، ومن جعله غير داخل فيها جوزه لعدم انتقاص الدلالة . وأما القاضي عياض فحكى الإجماع على امتناع السهو والنسيان في الأقوال البلاغية ، وخص الخلاف بالأفعال ، وأن الأكثرين ذهبوا إلى الجواز ، وأن المانعين تأولوا الأحاديث الواردة في سهو النبي صلى الله عليه وسلم على أنه تعمد ذلك ليقع النسيان فيه بالفعل ، وخطأهم في ذلك لتصريحه عليه السلام بالنسيان [ ص: 20 ] بقوله : { إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني } ، ولأن الأفعال العمدية تبطل الصلاة والبيان كاف بالقول ، فلا ضرورة إلى الفعل ، وحيث [ قلنا ] بالجواز ، فالشرط - بالاتفاق - أن لا يقر أحدهم عليه فيما طريقه البلاغ لما يؤدي ذلك إليه من فوات المقصود بالتشريع . واشترط الجمهور اتصالا لتنبيه بالواقعة ، وميل إمام الحرمين إلى جواز التأخير . قال القاضي عياض : وأما الأقوال فلا خلاف في امتناع ذلك فيها ، وفي السنن من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : { قلت : يا رسول الله ، أكتب كل ما أسمع منك ؟ قال : نعم . قلت : في الرضا والغضب ؟ قال : نعم . فإني لا أقول إلا حقا } .

                                                      قال : وتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كله واجب برهانا وإجماعا كما قاله الأستاذ ، وفي كلام إمام الحرمين ما يقتضي وجود خلاف فيه ، وهو مؤول على ما ليس طريقه البلاغ . وقال الرازي في تفسيره : وأما ما يتعلق بالتبليغ فأجمعت الأمة على العصمة فيه من الكذب والتحريف عمدا وسهوا ، ومنهم من جوزه سهوا ، ولا يحسن حكاية الخلاف بعد إجماع الأمة . والصواب ما قاله القاضي عياض ، وكلامه موافق لجمهور الأمة في ذلك . ثم قال القاضي : وأما ما ليس سبيله البلاغ ولا تعلق له بالوحي ولا بالأحكام ، فالذي يجب اعتقاده تنزيه النبي عن أن يقع خبره في شيء من ذلك كله ، بخلاف مخبره ، لا عمدا ولا سهوا ولا غلطا ، وأنه معصوم من ذلك كله في كل حال : رضاه وغضبه ، ومزاحه ; لاتفاق المسلمين والصحابة على تصديقه في جميع أحواله ، وتلقيه بالقبول والعمل .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية