الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب إثم المار بين يدي المصلي

                                                                                                                                                                                                        488 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن بسر بن سعيد أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المار بين يدي المصلي فقال أبو جهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه قال أبو النضر لا أدري أقال أربعين يوما أو شهرا أو سنة

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب إثم المار بين يدي المصلي ) أورد فيه حديث بسر بن سعيد أن زيد بن خالد - أي الجهني الصحابي - أرسله إلى أبي جهيم ، أي ابن الحارث بن الصمة الأنصاري الصحابي الذي تقدم حديثه في " باب التيمم في الحضر " هكذا روى مالك هذا الحديث في الموطأ لم يختلف عليه فيه أن المرسل هو زيد ، وأن المرسل إليه هو أبو جهيم ، وتابعه سفيان الثوري عن أبي النضر عند مسلم وابن ماجه وغيرهما وخالفهما ابن عيينة عن أبي النضر فقال " عن بسر بن سعيد قال : أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله " فذكر هذا الحديث . قال ابن عبد البر . هكذا رواه ابن عيينة مقلوبا أخرجه ابن أبي خيثمة عن ابن عيينة . ثم قال ابن أبي خيثمة : سئل عنه يحيى بن معين فقال : هو خطأ ، إنما هو " أرسلني زيد إلى أبي جهيم " كما قال مالك . وتعقب ذلك ابن القطان فقال : ليس خطأ ابن عيينة فيه بمتعين ، لاحتمال أن يكون أبو جهيم بعث بسرا إلى زيد ، وبعثه زيد إلى أبي جهيم يستثبت كل واحد منهما ما عند الآخر .

                                                                                                                                                                                                        قلت : تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن ، فإذا قالوا أخطأ فلان في كذا لم يتعين خطؤه في نفس الأمر ، بل هو راجح الاحتمال فيعتمد . ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشاذ ، وهو ما يخالف الثقة فيه من هو أرجح منه في حد الصحيح قوله : ( بين يدي المصلي ) أي أمامه بالقرب منه ، وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما ، واختلف في تحديد ذلك فقيل : إذا مر بينه وبين مقدار سجوده ، وقيل بينه وبين قدر ثلاثة أذرع ، وقيل بينه وبين قدر رمية بحجر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ماذا عليه ) زاد الكشميهني " من الإثم " وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات عند غيره ، والحديث في الموطأ بدونها . وقال ابن عبد البر : لم يختلف على مالك في شيء منه ، وكذا رواه باقي الستة [ ص: 697 ] وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها ، ولم أرها في شيء من الروايات مطلقا . لكن في مصنف ابن أبي شيبة " يعني من الإثم " فيحتمل أن تكون ذكرت في أصل البخاري حاشية فظنها الكشميهني أصلا ; لأنه لم يكن من أهل العلم ولا من الحفاظ بل كان راوية . وقد عزاها المحب الطبري في الأحكام للبخاري وأطلق ، فعيب ذلك عليه وعلى صاحب العمدة في إبهامه أنها في الصحيحين ، وأنكر ابن الصلاح في مشكل الوسيط على من أثبتها في الخبر فقال : لفظ الإثم ليس في الحديث صريحا . ولما ذكره النووي في شرح المهذب دونها قال : وفي رواية رويناها في الأربعين لعبد القادر الهروي " ماذا عليه من الإثم " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لكان أن يقف أربعين ) يعني أن المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم . وقال الكرماني : جواب " لو " ليس هو المذكور ، بل التقدير : لو يعلم ما عليه لوقف أربعين ولو وقف أربعين لكان خيرا له . وليس ما قاله متعينا ، قال : وأبهم المعدود تفخيما للأمر وتعظيما .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ظاهر السياق أنه عين المعدود ولكن شك الراوي فيه ، ثم أبدى الكرماني لتخصيص الأربعين بالذكر حكمتين إحداهما كون الأربعة أصل جميع الأعداد فلما أريد التكثير ضربت في عشرة .

                                                                                                                                                                                                        ثانيتهما كون كمال أطوار الإنسان بأربعين كالنطفة والمضغة والعلقة ، وكذا بلوغ الأشد . ويحتمل غير ذلك ا هـ . وفي ابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة " لكان أن يقف مائة عام خيرا له من الخطوة التي خطاها " . وهذا يشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لا لخصوص عدد معين .

                                                                                                                                                                                                        وجنح الطحاوي إلى أن التقييد بالمائة وقع بعد التقييد بالأربعين زيادة في تعظيم الأمر على المار ; لأنهما لم يقعا معا إذ المائة أكثر من الأربعين والمقام مقام زجر وتخويف فلا يناسب أن يتقدم ذكر المائة على الأربعين ، بل المناسب أن يتأخر . ومميز الأربعين إن كان هو السنة ثبت المدعى ، وأما دونها فمن باب الأولى ، وقد وقع في مسند البزار من طريق ابن عيينة التي ذكرها ابن القطان " لكان أن يقف أربعين خريفا " أخرجه عن أحمد بن عبدة الضبي عن ابن عيينة . وقد جعل ابن القطان الجزم في طريق ابن عيينة والشك في طريق غيره دالا على التعدد ، لكن رواه أحمد وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وغيرهم من الحفاظ عن ابن عيينة عن أبي النضر على الشك أيضا وزاد فيه " أو ساعة " فيبعد أن يكون الجزم والشك وقعا معا من راو واحد في حالة واحدة إلا أن يقال : لعله تذكر في الحال فجزم ، وفيه ما فيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( خيرا له ) كذا في روايتنا بالنصب على أنه خبر كان ، ولبعضهم " خير " بالرفع وهي رواية الترمذي ، وأعربها ابن العربي على أنها اسم كان ، وأشار إلى تسويغ الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة ويحتمل أن يقال : اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال أبو النضر ) هو كلام مالك وليس من تعليق البخاري ، ; لأنه ثابت في الموطأ من جميع الطرق . وكذا ثبت في رواية الثوري وابن عيينة كما ذكرنا . قال النووي : فيه دليل على تحريم المرور ، فإن معنى الحديث النهي الأكيد والوعيد الشديد على ذلك . انتهى . ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر وفيه أخذ القرين عن قرينه ما فاته أو استثباته فيما سمع معه . وفيه الاعتماد على خبر الواحد ; لأن زيدا اقتصر على النزول مع القدرة على العلو اكتفاء برسوله المذكور . وفيه استعمال " لو " في باب الوعيد ، ولا يدخل ذلك [ ص: 698 ] في النهي ، لأن محل النهي أن يشعر بما يعاند المقدور كما سيأتي في كتاب القدر حيث أورده المصنف إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيهات ) : أحدها : استنبط ابن بطال من قوله " لو يعلم " أن الإثم يختص بمن يعلم بالنهي وارتكبه . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وأخذه من ذلك فيه بعد ، لكن هو معروف من أدلة أخرى . ثانيها : ظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مر لا بمن وقف عامدا مثلا بين يدي المصلي أو قعد أو رقد ، لكن إن كانت العلة فيه التشويش على المصلي فهو في معنى المار .

                                                                                                                                                                                                        ثالثها : ظاهره عموم النهي في كل مصل ، وخصه بعض المالكية بالإمام والمنفرد ; لأن المأموم لا يضره من مر بين يديه ; لأن سترة إمامه سترة له أو إمامه سترة له ا هـ . والتعليل المذكور لا يطابق المدعى ; لأن السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي لا عن المار ، فاستوى الإمام والمأموم والمنفرد في ذلك .

                                                                                                                                                                                                        رابعها : ذكر ابن دقيق العيد أن بعض الفقهاء أي المالكية قسم أحوال المار والمصلي في الإثم وعدمه إلى أربعة أقسام : يأثم المار دون المصلي ، وعكسه يأثمان جميعا ، وعكسه . فالصورة الأولى أن يصلي إلى سترة في غير مشرع وللمار مندوحة فيأثم المار دون المصلي . الثانية أن يصلي في مشرع مسلوك بغير سترة أو متباعدا عن السترة ولا يجد المار مندوحة فيأثم المصلي دون المار . الثالثة مثل الثانية لكن يجد المار مندوحة فيأثمان جميعا . الرابعة مثل الأولى لكن لم يجد المار مندوحة فلا يأثمان جميعا . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وظاهر الحديث يدل على منع المرور مطلقا ولو لم يجد مسلكا بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته . ويؤيده قصة أبي سعيد السابقة فإن فيها " فنظر الشاب فلم يجد مساغا " وقد تقدمت الإشارة إلى قول إمام الحرمين : إن الدفع لا يشرع للمصلي في هذه الصور وتبعه الغزالي ، ونازعه الرافعي ، وتعقبه ابن الرفعة بما حاصله أن الشاب إنما استوجب من أبي سعيد الدفع لكونه قصر في التأخر عن الحضور إلى الصلاة حتى وقع الزحام . انتهى . وما قاله محتمل لكن لا يدفع الاستدلال ; لأن أبا سعيد لم يعتذر بذلك ; ولأنه متوقف على أن ذلك وقع قبل صلاة الجمعة أو فيها مع احتمال أن يكون ذلك وقع بعدها فلا يتجه ما قاله من التقصير بعدم التبكير ، بلى كثرة الزحام حينئذ أوجه ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        خامسها وقع في رواية أبي العباس السراج من طريق الضحاك بن عثمان عن أبي النضر " لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلى " فحمله بعضهم على ما إذا قصر المصلي في دفع المار أو بأن صلى في الشارع ، ويحتمل أن يكون قوله " والمصلى " بفتح اللام أي بين يدي المصلي من داخل سترته ، وهذا أظهر ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية