الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب إذا زوج ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود

                                                                                                                                                                                                        4845 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عبد الرحمن ومجمع ابني يزيد بن جارية عن خنساء بنت خذام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحه حدثنا إسحاق أخبرنا يزيد أخبرنا يحيى أن القاسم بن محمد حدثه أن عبد الرحمن بن يزيد ومجمع بن يزيد حدثاه أن رجلا يدعى خذاما أنكح ابنة له نحوه

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود ) هكذا أطلق ، فشمل البكر والثيب ، لكن حديث الباب مصرح فيه بالثيوبة ، فكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما سأبينه ، ورد النكاح إذا كانت ثيبا فزوجت بغير رضاها إجماع ، إلا ما نقل عن الحسن أنه أجاز إجبار الأب للثيب ولو كرهت كما تقدم . وعن النخعي إن كانت في عياله جاز وإلا رد ، واختلفوا إذا وقع العقد بغير رضاها ، فقالت الحنفية إن أجازته جاز ، وعن المالكية إن أجازته عن قرب جاز وإلا فلا ، ورده الباقون مطلقا .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ومجمع ) بضم الميم وفتح الجيم وكسر الميم الثقيلة ثم عين مهملة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ابني يزيد بن جارية ) بالجيم أي ابن عامر بن العطاف الأنصاري الأوسي من بني عمرو بن عوف ، وهو ابن أخي مجمع بن جارية الصحابي الذي جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأخرج له أصحاب السنن ، وقد وهم من زعم أنهما واحد ، ومنه قيل إن لمجمع بن يزيد صحبة ليس كذلك ، وإنما الصحبة لعمه مجمع بن جارية ، وليس لمجمع بن يزيد في البخاري سوى هذا الحديث ، وقد قرنه فيه بأخيه عبد الرحمن بن يزيد ، وعبد الرحمن ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيما جزم به العسكري وغيره ، وهو أخو عاصم بن عمر بن الخطاب لأمه ، قال ابن سعد : ولي القضاء لعمر بن عبد العزيز يعني لما كان أمير المدينة ، ومات سنة ثلاث وتسعين وقيل سنة ثمان ، ووثقه جماعة ، وما له في البخاري أيضا سوى هذا الحديث . وقد وافق مالكا على إسناد [ ص: 102 ] هذا الحديث سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم وإن اختلف الرواة عنهما في وصل هذا الحديث عن خنساء وفي إرساله حيث قال بعضهم عن عبد الرحمن ومجمع أن خنساء زوجت ، وكذا اختلفوا عنهما في نسب عبد الرحمن ومجمع : فمنهم من أسقط يزيد وقال ابني جارية والصواب وصله وإثبات يزيد في نسبهما ، وقد أخرج طريق ابن عيينة المصنف في ترك الحيل بصورة الإرسال كما سيأتي ، وأخرجها أحمد عنه كذلك ، وأوردها الطبراني من طريقه موصولة ، وأخرجه الدارقطني في " الموطئات " من طريق معلى بن منصور عن مالك بصورة الإرسال أيضا والأكثر وصلوه عنه ، وخالفهما معا سفيان الثوري في راو من السند فقال " عن عبد الرحمن بن القاسم عن عبد الله بن يزيد بن وديعة عن خنساء " أخرجه النسائي في " الكبرى " والطبراني من طريق ابن المبارك عنه ، وهي رواية شاذة لكن يبعد أن يكون لعبد الرحمن بن القاسم فيه شيخان ، وعبد الله بن يزيد بن وديعة هذا لم أر من ترجم له ، ولم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم ولا ابن حبان إلا عبد الله بن وديعة بن خدام الذي روى عن سلمان الفارسي في غسل الجمعة وعنه المقبري ، وهو تابعي غير مشهور إلا في هذا الحديث ، ووثقه الدارقطني وابن حبان ، وقد ذكره ابن منده في " الصحابة " وخطأه أبو نعيم في ذلك ، وأظن شيخ عبد الرحمن بن القاسم ابن أخيه ، وعبد الله بن يزيد بن وديعة هذا ممن أغفله المزي ومن تبعه فلم يذكروه في رجال الكتب الستة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( عن خنساء بنت خدام ) بمعجمة ثم نون ثم مهملة وزن حمراء ، وأبوها بكسر المعجمة وتخفيف المهملة ، قيل اسم أبيه وديعة ، والصحيح أن اسم أبيه خالد ووديعة اسم جده فيما أحسب ، وقع ذلك في رواية لأحمد من طريق محمد بن إسحاق عن الحجاج بن السائب مرسلا في هذه القصة ، ولكن قال في تسميتها خناس بتخفيف النون وزن فلان ، ووقع في رواية الدارقطني والطبراني وابن السكن خنساء ، ووصل الحديث عنها فقال " عن حجاج بن السائب بن أبي لبابة عن أبيه عن جدته خنساء " وخناس مشتق من خنساء كما يقال في زينب زناب ، وكنية خدام والد خنساء أبو وديعة كناه أبو نعيم .

                                                                                                                                                                                                        وقد وقع ذلك عند عبد الرزاق من حديث ابن عباس " أن خداما أبا وديعة أنكح ابنته رجلا " الحديث ، ووقع عند المستغفري من طريق ربيعة بن عبد الرحمن بن يزيد بن جارية أن وديعة بن خدام زوج ابنته ، وهو وهم في اسمه ، ولعله كان : أن خداما أبا وديعة ، فانقلب . وقد ذكرت في كتاب الصحابة ما يدل على أن لوديعة بن خدام أيضا صحبة ، وله قصة مع عمر في ميراث سالم مولى أبي حذيفة ذكرها البخاري في تاريخه ، وقد أطلت في هذا الموضع ، لكن جر الكلام بعضه بعضا ولا يخلو من فائدة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك ) ووقع في رواية الثوري المذكورة " قالت أنكحني أبي وأنا كارهة وأنا بكر " والأول أرجح ، فقد ذكر الحديث الإسماعيلي من طرق شعبة عن يحيى بن سعيد عن القاسم فقال في روايته " وأنا أريد أن أتزوج عم ولدي " وكذا أخرج عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي عن أبي بكر بن محمد " أن رجلا من الأنصار تزوج خنساء بنت خدام فقتل عنها يوم أحد ، فأنكحها أبوها رجلا ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أبي أنكحني ، وإن عم ولدي أحب إلي " فهذا يدل على أنها كانت ولدت من زوجها الأول ، واستفدنا من هذه الرواية نسبة زوجها الأول واسمه أنيس بن قتادة سماه الواقدي في روايته من وجه آخر عن خنساء ، ووقع في " المبهمات للقطب القسطلاني " أن اسمه أسير وأنه استشهد ببدر ولم يذكر له مستندا ، وأما الثاني الذي كرهته فلم أقف على اسمه إلا أن الواقدي ذكر بإسناد له أنه من بني مزينة ، ووقع في [ ص: 103 ] رواية ابن إسحاق عن الحجاج بن السائب بن أبي لبابة عن أبيه عنها أنه من بني عمرو بن عوف ، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس " أن خداما أبا وديعة أنكح ابنته رجلا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا تكرهوهن ، فنكحت بعد ذلك أبا لبابة وكانت ثيبا " وروى الطبراني بإسناد آخر عن ابن عباس فذكر نحو القصة قال فيه " فنزعها من زوجها وكانت ثيبا ، فنكحت بعده أبا لبابة " وروى عبد الرزاق أيضا عن الثوري عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير قال " تأيمت خنساء ، فزوجها أبوها " الحديث نحوه وفيه " فرد نكاحه ، ونكحت أبا لبابة " وهذه أسانيد يقوى بعضها ببعض . كلها دالة على أنها كانت ثيبا . نعم أخرج النسائي من طريق الأوزاعي عن عطاء عن جابر " أن رجلا زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما " وهذا سند ظاهره الصحة ، ولكن له علة أخرجه النسائي من وجه آخر عن الأوزاعي فأدخل بينه وبين عطاء إبراهيم بن مرة وفيه مقال ، وأرسله فلم يذكر في إسناده جابرا .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج النسائي أيضا وابن ماجه من طريق جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها ورجاله ثقات ، لكن قال أبو حاتم وأبو زرعة إنه خطأ وأن الصواب إرساله . وقد أخرجه الطبراني والدارقطني من وجه آخر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر وثيب أنكحهما أبوهما وهما كارهتان " قال الدارقطني : تفرد به عبد الملك الدماري وفيه ضعف ، والصواب عن يحيى بن أبي كثير عن المهاجر بن عكرمة مرسل ، وقال البيهقي : إن ثبت الحديث في البكر حمل على أنها زوجت بغير كفء والله أعلم قلت : وهذا الجواب هو المعتمد ، فإنها واقعة عين فلا يثبت الحكم فيها تعميما ، وأما الطعن في الحديث فلا معنى له فإن طرقه يقوى بعضها ببعض ، ولقصة خنساء بنت خدام طريق أخرى أخرجها الدارقطني والطبراني من طريق هشيم عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة " أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي كارهة ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها " ولم يقل فيه بكرا ولا ثيبا ، قال الدارقطني : رواه أبو عوانة عن عمر مرسلا لم يذكر أبا هـريرة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( حدثنا إسحاق ) هو ابن راهويه ويزيد هو ابن هارون ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أن رجلا يدعى خداما أنكح ابنة له نحوه ) ساق أحمد لفظه عن يزيد بن هارون بهذا الإسناد " أن رجلا منهم يدعى خداما أنكح ابنته ، فكرهت نكاح أبيها ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فرد عنها نكاح أبيها ، فتزوجت أبا لبابة بن عبد المنذر " فذكر يحيى بن سعيد أنه بلغه أنها كانت ثيبا ، وهذا يوافق ما تقدم . وكذا أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن شيبة عن يزيد بن هارون ، وأخرجه الإسماعيلي من طرق عن يزيد كذلك ، وأخرجه الطبراني والإسماعيلي من طريق محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد نحوه . وأخرجه الطبراني من طريق عيسى بن يونس عن يحيى كذلك . وأخرجه أحمد عن أبي معاوية عن يحيى كذلك ، لكن اقتصر على ذكر مجمع بن يزيد ، والذي بلغ يحيى ذلك يحتمل أن يكون عبد الرحمن بن القاسم ، فسيأتي في ترك الحيل من طريق ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن القاسم " أن امرأة من ولد جعفر تخوفت أن يزوجها وليها وهي كارهة فأرسلت إلى شيخين من الأنصار عبد الرحمن ومجمع ابني جارية قالا : فلا تخشين فإن خنساء بنت خدام أنكحها أبوها وهي كارهة فرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال سفيان : وأما عبد الرحمن بن القاسم فسمعته يقول عن أبيه عن خنساء انتهى ، وقد أخرجه الطبراني من وجه آخر عن سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن عن أبيه عن [ ص: 104 ] خنساء موصولا ، والمرأة التي من ولد جعفر هي أم جعفر بنت القاسم بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، ووليها هـو عم أبيها معاوية بن عبد الله بن جعفر ، أخرجه المستغفري من طريق يزيد بن الهاد عن ربيعة بإسناده أنها تأيمت من زوجها حمزة بن عبد الله بن الزبير ، فأرسلت إلى القاسم بن محمد وإلى عبد الرحمن بن يزيد فقالت : إني لا آمن معاوية أن يضعني حيث لا يوافقني ، فقال لها عبد الرحمن : ليس له ذلك ولو صنع ذلك لم يجز ، فذكر الحديث إلا أنه لم يضبط اسم والد خنساء ولا سمى بنته كما قدمته . وكنت ذكرت في المقدمة في تسمية المرأة من ولد جعفر ومن ذكر معها غير الذي هنا ، والمذكور هنا هـو المعتمد ، وقد حصل من تحرير ذلك ما لا أظن أنه يزاد عليه ، فلله الحمد على جميع مننه




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية