الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ نسخ السنة بالقرآن ]

                                                      وأما نسخ السنة بالقرآن ، فمن جوز نسخ القرآن بالسنة فأولى أن يجوز هذا وأما المانعون هناك فاختلفوا . وللشافعي فيها قولان : حكاهما القاضي أبو الطيب ، والشيخ أبو إسحاق ، وسليم ، وإمام الحرمين ، وصححوا الجواز . وقال ابن برهان : هو قول المعظم . وقال سليم : هو قول عامة المتكلمين والفقهاء . وقال ابن السمعاني : إنه الأولى بالحق ، وجزم به الصيرفي هنا مع منعه هناك . وظاهر كلام أبي إسحاق المروزي تصحيحه ، لكن حكى الرافعي في باب الهدنة أن المنع منسوب إلى أكثر الأصحاب . وقال الماوردي في " الحاوي " في باب القضاء : ظاهر مذهبنا وجهان [ ص: 273 ] أو قولان . التردد منه . وقال : الذي نص عليه الشافعي في القديم والجديد أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن . كالعكس . وقال ابن سريج : يجوز بخلاف ذلك لأن القرآن آكد من السنة ، وخرجوا قولا ثانيا للشافعي من كلام تأوله في " الرسالة " . انتهى . [ مذهب الشافعي في نسخ السنة بالقرآن ]

                                                      وقال أبو إسحاق المروزي في كتابه : نص الشافعي في " الرسالة القديمة والجديدة " على أن السنة لا تنسخ إلا السنة ، وأن الكتاب لا ينسخ السنة ، ولا العكس . وقال ابن السمعاني : ذكر الشافعي في " الرسالة القديمة والجديدة " ما يدل على أن نسخ السنة لا يجوز ، ولعله صرح بذلك ، ولوح في موضع آخر بما يدل على الجواز ، فخرجه أكثر أصحابنا على قولين ، وأظهرهما من مذهبه أنه لا يجوز . والثاني : الجواز ، وهو أولى بالحق انتهى . وقد استعظم إلكيا الهراسي القول بالمنع هاهنا أيضا . وقال : توجيهه عسر جدا ، والممكن فيه أن يقال : إنه عليه السلام إذا قال عن اجتهاد ، فلا يجوز أن يرد الكتاب من بعد بخلافه ، لما فيه من تقرير الرسول صلى الله عليه وسلم على الباطل ، وإيهام المخالفة . وقال في " تعليقه " : قد صح عن الشافعي أنه قال في " رسالتيه " جميعا : إن ذلك غير جائز ، وعلى ذلك من هفواته ، وهفوات الكبار على أقدارهم ، ومن عد خطؤه عظم قدره . وقد كان عبد الجبار بن أحمد كثيرا ما ينصر مذهب الشافعي في الأصول والفروع ، فلما وصل إلى هذا الموضع ، قال : هذا الرجل كبير ، لكن الحق أكبر منه ، ثم نصر هو الحق . قال إلكيا : والمتغالون في محبة الشافعي لما رأوا أن هذا القول لا يليق [ ص: 274 ] به طلبوا له محامل ، فقيل : إنما قال هذا بناء على أصل ، وهو جواز الاجتهاد للرسول ، فإذا جاز له الاجتهاد في . بنص الكتاب وحكم ثم أراد الرسول نسخه باجتهاده ، لا يجوز له ، لأن الاجتهاد لا يؤدي إلى بيان أمد العبادة ، ولا يهدي إلى مقدار وقتها . وهذا باطل ، لأن الشافعي منع من النسخ بالمتواتر ، وقضية هذا الكلام تجويز نسخ القرآن للسنة التي لا توجد ، وبيانه أن ما كان بيانا في كتاب الله بالنص كان ثبوته عنه باجتهاد الرسول ، لأن الاجتهاد استخراج من جهة الله ، وهو لا يجوز مع وجود الكتاب . فكأنه يقول : الشافعي يمنع من نسخ الكتاب لسنة لا يتصور وجودها . انتهى كلامه .

                                                      قلت : وعبارة الشافعي في " الرسالة " بعد الكلام السابق : وهكذا سنة رسول الله لا ينسخها إلا سنة لرسوله ، ولو أحدث الله لرسوله في أمر سن فيه غير ما سن رسول الله [ لسن فيما أحدث الله ] إليه حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفها ، وهذا مذكور في سنته صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : هل تنسخ السنة بالقرآن ؟ قيل : لو نسخت السنة بالقرآن ، كان للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة تبين أن السنة الأولى منسوخة بسنته الأخيرة ، حتى يقيم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله . انتهى . وفيه كذلك قوله في " الرسالة " في موضع آخر : وقد ورد حديث أبي سعيد في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم الخندق ، وأن ذلك قبل أن ينزل الله الآية التي ذكر فيها صلاة الخوف ، ثم ذكر الشافعي صلاة النبي بذات الرقاع ، ثم قال : وفي هذا دلالة على ما وصفت قبل هذا في هذا الكتاب ، من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سن سنة ، [ فأحدث الله إليه [ ص: 275 ] في تلك السنة نسخها أو مخرجا إلى سعة ] منها سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تقوم الحجة على الناس بها ، حتى [ يكونوا ] إنما صاروا من سنته إلى سنته التي بعدها ، فنسخ الله تأخير الصلاة عن وقتها في الخوف إلى أن يصلوها كما أنزل الله ، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها ، ونسخ صلى الله عليه وسلم [ سنته ] في تأخيرها بفرض الله في كتابه ثم سنته صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها كما وصفت . انتهى .

                                                      ومن صدر هذا الكلام أخذ من قبل عن الشافعي أن السنة لا تنسخ بالكتاب ، ولو تأمل عقب كلامه بان له غلط هذا الفهم . وإنما مراد الشافعي أن الرسول إذا سن سنة ثم أنزل الله في كتابه ما ينسخ ذلك الحكم ، فلا بد أن يسن النبي صلى الله عليه وسلم سنة أخرى موافقة للكتاب تنسخ سنته الأولى ، لتقوم الحجة على الناس في كل حكم بالكتاب والسنة جميعا ، ولا تكون سنة منفردة تخالف الكتاب ، وقوله : ولو أحدث إلى آخره ، صريح في ذلك . وكذلك ما بعده . والحاصل أن الشافعي يشترط لوقوع نسخ السنة بالقرآن سنة معاضدة للكتاب ناسخة ، فكأنه يقول : لا تنسخ السنة إلا بالكتاب والسنة معا ، لتقوم الحجة على الناس بالأمرين معا ، ولئلا يتوهم متوهم انفراد أحدهما من الآخر ، فإن الكل من الله . والأصوليون لم يقفوا على مراد الشافعي في ذلك ، وقد سبق أن هذا أدب عظيم من الشافعي وليس مراده إلا ما ذكرناه . فإن قيل : يرد عليه الكتاب المنفرد بلا سنة ، والسنة المنفردة بلا كتاب . قيل : الحجة في ذلك قائمة بالكتاب والسنة جميعا .

                                                      أما الأول فلتبليغ النبي صلى الله عليه وسلم ، والعلم باتباعه له ، ما تواتر عنه من الأمر بطاعة الله . وأما الثاني فلقوله : { وما آتاكم الرسول } ، فاجتمع في كل مسألة دليلان . فإن قيل : فهذا حاصل فيما إذا كان أحدهما ناسخا للآخر . قيل : [ ص: 276 ] نعم ، ولكنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالله ، وأكثر أدبا ومسارعة إلى ما يؤمر به ، ولا يبقى مكان إزالة الشبهة عن الناس ، وإزالة عذرهم ، وذلك يقتضي أنه لا يبقى له سنة تخالف الكتاب إلا بين أنها منسوخة بيانا صريحا بقوله أو فعله ، حتى لا يتعلق من في قلبه ريب بأحدهما ويترك الآخر . وهذا من محاسن الشافعي الذي لم يسبقه غيره إلى الإفصاح به . وقد وقع على هذا المعنى ونبه عليه جماعة من أئمتنا ، منهم أبو إسحاق المروزي في كتابه " الناسخ " .

                                                      فقال : وقد نقل كلام الشافعي في " الرسالتين " ، فذكر الكلام السابق ثم قال : وذكر الشافعي في " الرسالة القديمة " منع نسخ القرآن بالسنة ، ثم قال : وكذلك القرآن لا ينسخ السنة ، ولو أحدث الله عز وجل لنبيه في سنة سنها غير ما سن الرسول لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا غير السنة الأولى ، حتى تنسخ سنته الأخيرة سنته الأولى . وقال أيضا في القديمة في مناظرة بينه وبين محمد حكاية عن محمد أنه قال : وإذا كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمعنى ما أراد الله عز وجل ، ولا يتأول على سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يزعم أن الكتاب ينسخ بسنة ، ولكن السنة تدل على معنى الكتاب . فقال الشافعي : إذا أصبت . وهذا قولنا ، فكيف لا نقول باليمين مع الشاهد .

                                                      قال أبو إسحاق : فقد نص الشافعي في " الرسالة القديمة والجديدة " على أن سنة الرسول لا تنسخ إلا بسنة ، وأن الكتاب لا ينسخ السنة ، ولا السنة تنسخ الكتاب ، وأن كتاب الله فيما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة إنما يأتي أمر ثان ينسخ سنته ، حتى يكون هو المتولي لنسخه ، وسنته أن يكون ذلك ، لئلا يختلط البيان بالنسخ ، فلا يوجد لرسول الله سنة ظاهر القرآن خلافها ، [ ص: 277 ] إلا جعل القرآن ناسخا ، أو جعلت السنة إذا كان ظاهرها خلاف القرآن ناسخة للقرآن ، فيكون ذلك ذريعة إلى أن يخرج أكثر السنن من أيدينا . وقد قال الشافعي في مواضع ما يوجب أن القرآن ينسخ السنة ، إلا أنه في أيدينا وجب استعمالها على ما يمكن منهما ، والذي يمكن تخصيص العام بالنص بعلمنا ذلك ، ثم سواء تقدمت السنة أو تأخرت ، لأنها إن تقدمت فالكلام العام مثبت عليها ، وهي بيان ، وإن تأخرت فهي تفسيره ، وهي بيان .

                                                      ومن جعلها منسوخة فإنما يريد منا أن نترك المفسر بالمجمل ، والنص بالمجمل ، ومن أراد ذلك منا قلنا له : بل بيان كما أمر الله نبيه بالبيان به . فلا يجوز ترك النص بما يحتمل المعاني . قال : وهذا جملة مما قاله الشافعي في هذا الباب ، وما قاله أبو العباس بن سريج فيه . ا هـ . ومنهم أبو بكر الصيرفي في كتابه ، فقال : ومعنى قول الشافعي : إن السنة لا تنسخ القرآن صحيح على الإطلاق لا يأتي برفع حكم القرآن أبدا ، ومعنى قوله : لا ينسخ القرآن السنة إلا أحدث النبي صلى الله عليه وسلم سنة تبين أن سنته الأولى قد أزيلت بهذه الثانية كلام صحيح ، أحال أن تكون السنة تأتي برفع القرآن الثابت على ما بينا من قيام الأدلة ، وأجاز أن يأتي القرآن برفع السنة ، بل قد وجده ، ثم قرنه بأنه لا بد من سنة معه تبين أنه أزال الحكم ، لئلا يجوز أن يجعل عموم القرآن مزيلا لما بينه من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ، لوهم أن يتوهم أن قوله : فاغسلوا أرجلكم مزيل لحكم مسح الخفين ، ومثله قوله : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } مزيل لتحريم كل ذي ناب من السباع ونحوه .

                                                      وهكذا قال الشافعي عند ذكره صلاة الخوف ، وحكي عن أبي سعيد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وذلك قبل أن ينزل الله : { فرجالا أو ركبانا } فقال : وهذا من الذي قلت لك : إن الله إذا أحدث لرسوله في شيء سنة عليه السلام ، فلا بد من سنة تبين أن سنته [ ص: 278 ] الأولى منسوخة بسنته الأخيرة ، يعني أن الله عز وجل رفع الحكم بالآية ففعل هذه السنة ، لأن الرافع هو القرآن ، والسنة هي المثبتة أن القرآن قد رفع حكم ما سنه ، وبيانا للأمة ، ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن الحكم قد زال بما أمر ، وصار هو الفرض بفعله امتثالا للمفروض عليه وعلى أمته ، وبيانا للأمة أنه قد أزيل ما سنه ، فيعلم بسنته الثانية أن الله قد أزال سنته الأولى لما وصفت من احتمال ترتيب الآية على السنة ، لئلا يشكل ذلك في الترتيب والفرض . وقد نص الشافعي على ذلك فقال فيما عقده النبي صلى الله عليه وسلم لقريش بنقض الله الصلح من رد المؤمنات : فهذا يدل على أن القرآن هو الذي رفع السنة . انتهى كلامه .

                                                      وقال الغزالي في " المنخول " : أما ورود آية على مناقضة ما تضمنه الخبر فجائز بالاتفاق ، ولكن الفقهاء قالوا : النبي صلى الله عليه وسلم هو الناسخ لخبره دون الآية . قال : وهذا كلام لا فائدة فيه ، ولا استحالة في كون الآية ناسخة للخبر وعزي إلى الشافعي المصير إلى استحالته ، ولعله عنى في المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينسخ ، ولا يبين ، وإنما الناسخ الله . ا هـ . وقال القاضي في " التقريب " : كان الشافعي يقول بتجويز ورود القرآن بلفظ ينفي الحكم الثابت بالسنة ، غير أنه لا يقع النسخ به حتى يحدث النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن سنة له أخرى يبين بها انتفاء حكم السنة المتقدمة ، وهذا مما لا وجه له ، لأنه إذا كان القرآن من عند الله ، وكان ظاهره ينفي حكم السنة ، وجب القضاء على رفعه لها ، ولو كان ما هذا حكمه من القرآن لا يكفي في ذلك في رفع حكم السنة لفظ سنة أخرى ينفي حكمها . فإن قيل : قد يلتبس الأمر في ذلك ، فيظن سامع لفظ الآية أنه غير مراد به رفع حكم السنة ؟ قلنا : إذا لم يحتمل اللفظ غير ما يضاد حكم السنة ارتفع التوهم . [ ص: 279 ]

                                                      وقال أبو إسحاق المروزي : نص الشافعي في موضع آخر على أن الله ينسخ سنة رسوله ، غير أن قوله لم يختلف في أن الله إذا نسخ ذلك لم يكن بد من أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة ، إما بالسنة أو بكتاب الله ، لأن المنع من إجازة نسخ الله سنة نبيه لئلا يختلط البيان بالنسخ فتخرج السنن من أيدينا ، فإذا انضم إلى السنة الأولى وإلى القرآن الذي أتى برفعه سنة أخرى تبين أن السنة الأولى منسوخة ، فقد زال ما يخوف من اختلاط البيان بالنسخ ، ولا يبالى بعد ذلك أيهما الناسخ للحكم الأول : الكتاب للسنة ، أو السنة للسنة ، وليس في أيدينا دليل واضح على أنه لا ينسخ الكتاب السنة ، كما أن السنة لا تنسخ القرآن . قال : وحكى أبو العباس بن سريج قولا للشافعي في " الرسالة " أن الله لا ينسخ سنة إلا ومعها سنة له تبين أن سنته الأولى منسوخة ، وإلا خرجت السنن من أيدينا . ثم قال : وهذا الذي احتج به الشافعي بين لمن تدبره ، وذلك أن الله قال لنبيه : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فإذا كانت هذه الآيات محتملة للخصوص ، ثم جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك ، فهو بيان منه لها ، فإذا جعلت ناسخة له فقد أدى ذلك إلى إبطال الوضع الذي وضع الله له نبيه من الإبانة عن معنى الكتاب .

                                                      فإن قيل : إنما هي بيان إذا ثبت أنه قال بعد نزول الآية . قيل : إن قوله والآية إذا جعلنا الناسخ دليلا على أنه الناسخ ، وأن الذي ينافيه منسوخ ، كقوله : { كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها } . تنبيهات

                                                      الأول : قسم الصيرفي ما يأتي من القرآن برفع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضربين : [ ص: 280 ]

                                                      أحدهما : ما لا يحتمل الموافقة فبالخطاب يعلم رفعه ، كقوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } الآية . وكصلح الرسول لقريش على أن يرد النساء إليهم ، فأنزل الله : { فلا ترجعوهن إلى الكفار } فهذا يعلم من ظاهر الخطاب أن الحكم قد أزيل ، ويكون فعل النبي صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر الله .

                                                      والثاني : يحتمل الموافقة كآية الوصايا مع الميراث ، فإنه يحتمل أن يجمع الوصية والميراث للوالدين والأقربين ، فلا يثبت النسخ إلا أن تأتي سنة تبين أن الآية رافعة كقوله صلى الله عليه وسلم : { إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث } . قال : ومثل أن عموم آية على سنة ، فلا بد حينئذ من سنة تبين أن السنة الأولى قد أزيل حكمها ببيان السنة الثانية .

                                                      الثاني : أن الكلام هنا في الجواز هل هو الشرعي أو العقلي ؟ فيه ما سبق . وقد صرح الماوردي بأن العقلي محل وفاق ، فقال بعدما سبق : ثم اختلف أصحابنا في طريق الجواز والمنع في الشرع مع جوازه في العقل على ثلاثة أوجه : أحدها : لا توجد سنة إلا ولها في كتاب الله أصل كانت فيه بيانا لمجمله ، فإذا ورد الكتاب بنسخها كان نسخا لما في الكتاب من أصلها ، فصار ذلك نسخ الكتاب بالكتاب .

                                                      والثاني : يوحي إلى رسوله بما تحققه من أمته ، فإذا أراد نسخ ما سنه الرسول أعلمه به ، حتى يظهر نسخه ، ثم يرد الكتاب بنسخه تأكيدا لنسخ رسوله ، فصار ذلك نسخ السنة بالسنة .

                                                      والثالث : نسخ الكتاب بالسنة ، فيكون أمرا من الله لرسوله بالنسخ ، فيكون الله هو الآمر به ، والرسول هو الناسخ ، فصار ذلك نسخ السنة [ ص: 281 ] بالكتاب . الثالث : حكى أبو بكر الرازي من الحنفية في كتابه عن بعضهم طريقا آخر في الامتناع ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قد كان يقف في تأويل مجمل الكتاب على ما لا يشركه في الوقوف عليه أحد من أمته . فليست له سنة لا كتاب فيها إلا وقد يحتمل أن يكون لها في الكتاب جملة تدل عليها ، فخص الله رسوله بعلم ذلك ، فلم يثبت أن آية نسخت سنة ، لأن تلك السنة قد تكون مأخوذة من جملة الكتاب وإن خفي علينا علم ذلك بعد . قال أبو بكر : وهذا يوجب أن لا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم سنة أصلا . وأن يكون كل ما بينه فهو بيان لجملة مذكورة في القرآن قد علمها دوننا . قال : وبطلانه معلوم باتفاق الأمة . قلت : قد حكاه الشافعي في أول الرسالة قولا عن بعض أهل العلم ، ثم حكى الرازي عن هذا القائل استقراء أنه لم يرد أنه نسخت عنده سنة إلا وقد وجد لها حكمة من الكتاب ، نحو : ما ادعوه من نسخ استقبال بيت المقدس ، واستحلال الخمر ، وتحريم المباشرة ، والفطر بعد النوم في ليالي الصوم ، فقد يكون استقبال بيت المقدس مأخوذا من قوله : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وشرب الخمر من قوله : { إثم كبير ومنافع للناس } ومعلوم أن شربها لا يحل وفيه إثم ، ويحرم ما يحل للمفطر { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } أي على الصفة ، قال : وإن ورد ما لم يطلع فيه على ذلك ، فيجوز أن يكون مأخوذا من الكتاب ، وإن خفي علينا علمه . ثم زيف الرازي هذه المقالة ، ورد هذا كله .

                                                      الرابع : أشار الدبوسي إلى أن الخلاف في هذه المسألة والتي قبلها نشأ [ ص: 282 ] من الخلاف في أن الزيادة نسخ أو بيان ؟ فالشافعي يرى أنه بيان ، وما ورد مما يوهم النسخ جعله من قسم البيان . وعندنا أن الزيادة نسخ ، فاضطررنا إلى القول بجواز نسخ السنة بالكتاب وبالعكس . وقال ابن المنير في " شرح البرهان " : طريق النظر عندي في هذه المسألة غير ما ذهب إليه المصنفون ، وذلك لأن الناسخ والمنسوخ أمر قد فرغ منه ، وجف به القلم ، فلا تتوقع فيه الزيادة . وينبغي أن يسمع الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة ، فإن لم نجد شيئا من الذي نسخ بالسنة ، ولا العكس ، قطعنا بالواقع ، واستغنينا عن الكلام على الزائد ، لأنه لا يقع أبدا . قال : وها هنا مزلة قدم لا بد من التنبيه عليها ، وذلك أنا قد نجد حكما من السنة منسوخا ، ونجد في الكتاب حكما مضادا لذلك المنسوخ ، فيسبق الوهم إلى أنه الناسخ ، وهذا غير لازم ، لأنا قد نجد في السنة ناسخا ، فلعل الموجود في السنة هو الذي نسخ ، والموجود في الكتاب نزل بعد أن استقر النسخ ، فلا يتعين كون ذلك هو الناسخ ، ثم نتبع ذلك بالأمثلة . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية