الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ( 94 ) إنا كفيناك المستهزئين ( 95 ) الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ( 96 ) ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ( 97 ) فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ( 98 ) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ( 99 ) )

                                                                                                                                                                                                    يقول تعالى آمرا رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصدع به ، وهو مواجهة المشركين به ، كما قال ابن عباس : ( فاصدع بما تؤمر ) أي : أمضه . وفي رواية : افعل ما تؤمر .

                                                                                                                                                                                                    وقال مجاهد : هو الجهر بالقرآن في الصلاة .

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود : ما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - مستخفيا ، حتى نزلت : ( فاصدع بما تؤمر ) فخرج هو وأصحابه

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين ) أي : بلغ ما أنزل إليك من ربك ، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله . ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) [ القلم : 9 ] ولا تخفهم ; فإن الله كافيك إياهم ، وحافظك منهم ، كما قال تعالى : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) [ المائدة : 67 ]

                                                                                                                                                                                                    وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يحيى بن محمد بن السكن ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا عون بن كهمس ، عن يزيد بن درهم قال : سمعت أنسا يقول في هذه الآية : ( إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر ) [ ص: 552 ] قال : مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغمزه بعضهم ، فجاء جبريل أحسبه قال : فغمزهم فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة حتى ماتوا

                                                                                                                                                                                                    وقال محمد بن إسحاق : كان عظماء المستهزئين - كما حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير - خمسة نفر ، كانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم ، من بني أسد بن عبد العزى بن قصي : الأسود بن المطلب أبو زمعة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - قد دعا عليه ؛ لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه [ به ] فقال : اللهم ، أعم بصره ، وأثكله ولده . ومن بني زهرة : الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة . ومن بني مخزوم : الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم . ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي : العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد . ومن خزاعة : الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد عمرو بن ملكان - فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستهزاء ، أنزل الله تعالى : ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين ) إلى قوله : ( فسوف يعلمون )

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، أو غيره من العلماء ، أن جبريل أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يطوف بالبيت ، فقام وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنبه ، فمر به الأسود [ ابن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء ، فعمي . ومر به الأسود ] بن عبد يغوث ، فأشار إلى بطنه ، فاستسقى بطنه ، فمات منه حبنا . ومر به الوليد بن المغيرة ، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله - كان أصابه قبل ذلك بسنتين وهو يجر إزاره - وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له ، فتعلق سهم من نبله بإزاره ، فخدش رجله ذلك الخدش ، وليس بشيء - فانتقض به فقتله . ومر به العاص بن وائل ، فأشار إلى أخمص قدمه ، فخرج على حمار له يريد الطائف ، فربض على شبرقة فدخلت في أخمص رجله منها شوكة فقتلته . ومر به الحارث بن الطلاطلة ، فأشار إلى رأسه ، فامتخط قيحا ، فقتله

                                                                                                                                                                                                    قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : كان رأسهم الوليد بن المغيرة ، وهو الذي جمعهم .

                                                                                                                                                                                                    وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعكرمة نحو سياق محمد بن إسحاق ، عن يزيد ، عن عروة بطوله ، إلا أن سعيدا يقول : الحارث بن غيطلة . وعكرمة يقول : الحارث بن قيس .

                                                                                                                                                                                                    قال الزهري : وصدقا ، هو الحارث بن قيس ، وأمه غيطلة .

                                                                                                                                                                                                    وكذا روي عن مجاهد ، ومقسم ، وقتادة ، وغير واحد ، أنهم كانوا خمسة . [ ص: 553 ]

                                                                                                                                                                                                    وقال الشعبي : كانوا سبعة .

                                                                                                                                                                                                    والمشهور الأول .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ) تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، لمن جعل مع الله معبودا آخر .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ) أي : وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك انقباض وضيق صدر ، فلا يهيدنك ذلك ، ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة الله ، وتوكل على الله فإنه كافيك وناصرك عليهم ، فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة ; ولهذا قال : ( وكن من الساجدين ) كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد :

                                                                                                                                                                                                    حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن كثير بن مرة ، عن نعيم بن همار أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قال الله : يا ابن آدم ، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره . .

                                                                                                                                                                                                    ورواه أبو داود من حديث مكحول ، عن كثير بن مرة ، بنحوه

                                                                                                                                                                                                    ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر صلى .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) قال البخاري : قال سالم : الموت

                                                                                                                                                                                                    وسالم هذا هو : سالم بن عبد الله بن عمر ، كما قال ابن جرير :

                                                                                                                                                                                                    حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، حدثني طارق بن عبد الرحمن ، عن سالم بن عبد الله : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) قال : الموت

                                                                                                                                                                                                    وهكذا قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيره

                                                                                                                                                                                                    والدليل على ذلك قوله تعالى إخبارا عن أهل النار أنهم قالوا : ( لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ) [ المدثر : 43 - 47 ]

                                                                                                                                                                                                    وفي الصحيح من حديث الزهري ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أم العلاء - امرأة من الأنصار - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل على عثمان بن مظعون - وقد مات - قلت : رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما يدريك أن الله أكرمه ؟ " [ ص: 554 ] فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله ، فمن ؟ فقال : " أما هو فقد جاءه اليقين ، وإني لأرجو له الخير "

                                                                                                                                                                                                    ويستدل من هذه الآية الكريمة وهي قوله : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) - على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا فيصلي بحسب حاله ، كما ثبت في صحيح البخاري ، عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب "

                                                                                                                                                                                                    ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة ، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم . وهذا كفر وضلال وجهل ، فإن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته ، وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع هذا أعبد الناس وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة . وإنما المراد باليقين هاهنا الموت ، كما قدمناه . ولله الحمد والمنة ، والحمد لله على الهداية ، وعليه الاستعانة والتوكل ، وهو المسئول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها [ فإنه جواد كريم ]

                                                                                                                                                                                                    [ وحسبنا الله ونعم الوكيل ]

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية