الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر وقال إبراهيم التيمي ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا وقال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل ويذكر عن الحسن ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون

                                                                                                                                                                                                        48 حدثنا محمد بن عرعرة قال حدثنا شعبة عن زبيد قال سألت أبا وائل عن المرجئة فقال حدثني عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سباب المسلم فسوق وقتاله كفر

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ) هذا الباب معقود للرد على المرجئة خاصة وإن كان أكثر ما مضى من الأبواب قد تضمن الرد عليهم ، لكن قد يشركهم غيرهم من أهل البدع في شيء منها ، بخلاف هذا . والمرجئة بضم الميم وكسر الجيم بعدها ياء مهموزة ويجوز تشديدها بلا همز نسبوا إلى الإرجاء وهو التأخير ; لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان فقالوا : الإيمان هو التصديق بالقلب فقط ولم يشترط جمهورهم النطق ، وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال وقالوا : لا يضر مع الإيمان ذنب أصلا ، ومقالاتهم مشهورة في كتب الأصول . ومناسبة إيراد هذه الترجمة عقب التي قبلها من جهة أن اتباع الجنازة مظنة لأن يقصد بها مراعاة أهلها أو مجموع الأمرين ، وسياق الحديث يقتضي أن الأجر الموعود به إنما يحصل لمن صنع ذلك احتسابا أي : خالصا ، فعقبه بما يشير إلى أنه قد يعرض للمرء ما يعكر على قصده الخالص فيحرم به الثواب الموعود وهو لا يشعر . فقوله " أن يحبط عمله " أي : يحرم ثواب عمله لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص فيه . وبهذا التقرير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأنه يقوي مذهب الإحباطية الذين يقولون : إن السيئات يبطلن الحسنات ، وقال القاضي أبو بكر بن العربي في الرد عليهم : القول الفصل في هذا أن الإحباط إحباطان : أحدهما إبطال الشيء للشيء وإذهابه جملة كإحباط الإيمان للكفر والكفر للإيمان ، وذلك في الجهتين إذهاب حقيقي . ثانيهما إحباط الموازنة إذا جعلت الحسنات في كفة والسيئات في كفة ، فمن رجحت حسناته نجا ، ومن رجحت سيئاته وقف في المشيئة : إما أن يغفر له وإما أن يعذب . فالتوقيف إبطال ما ; لأن توقيف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لها ، والتعذيب إبطال أشد منه إلى حين الخروج من النار ، ففي كل منهما [ ص: 136 ] إبطال نسبي أطلق عليه اسم الإحباط مجازا ، وليس هو إحباط حقيقة لأنه إذا أخرج من النار وأدخل الجنة عاد إليه ثواب عمله ، وهذا بخلاف قول الإحباطية الذين سووا بين الإحباطين وحكموا على العاصي بحكم الكافر ، وهم معظم القدرية . والله الموفق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال إبراهيم التيمي ) هو من فقهاء التابعين وعبادهم ، وقوله " مكذبا " يروى بفتح الذال يعني خشيت أن يكذبني من رأى عملي مخالفا لقولي فيقول : لو كنت صادقا ما فعلت خلاف ما تقول ، وإنما قال ذلك لأنه كان يعظ الناس . ويروى بكسر الذال وهي رواية الأكثر ، ومعناه أنه مع وعظه الناس لم يبلغ غاية العمل . وقد ذم الله من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقصر في العمل فقال كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون فخشي أن يكون مكذبا أي : مشابها للمكذب ، وهذا التعليق وصله المصنف في تاريخه عن أبي نعيم وأحمد بن حنبل في الزهد عن ابن مهدي كلاهما عن سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن إبراهيم المذكور .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ابن أبي مليكة . . . إلخ ) هذا التعليق وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه ، لكن أبهم العدد . وكذا أخرجه محمد بن نصر المروزي مطولا في كتاب الإيمان له ، وعينه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه من وجه آخر مختصرا كما هنا ، والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة وعقبة بن الحارث والمسور بن مخرمة ، فهؤلاء ممن سمع منهم ، وقد أدرك بالسن جماعة أجل من هؤلاء كعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص ، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال ، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك فكأنه إجماع ، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص . ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم ، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى رضي الله عنهم . وقال ابن بطال : إنما خافوا لأنهم طالت أعمارهم حتى رأوا من التغير ما لم يعهدوه ولم يقدروا على إنكاره ، فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل ) أي لا يجزم أحد منهم بعدم عروض النفاق لهم كما يجزم بذلك في إيمان جبريل ، وفي هذا إشارة إلى أن المذكورين كانوا قائلين بتفاوت درجات المؤمنين في الإيمان ، خلافا للمرجئة القائلين بأن إيمان الصديقين وغيرهم بمنزلة واحدة . وقد روي في معنى أثر ابن أبي مليكة حديث عن عائشة مرفوع رواه الطبراني في الأوسط لكن إسناده ضعيف .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ويذكر عن الحسن ) هذا التعليق وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافق له من طرق متعددة بألفاظ مختلفة . وقد يستشكل ترك البخاري الجزم به مع صحته عنه ، وذلك محمول على قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ رحمه الله ، وهي : أن البخاري لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد ، بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها أيضا ، لما علم من الخلاف في ذلك ، فهنا كذلك وقد أوقع اختصاره له لبعضهم الاضطراب في فهمه فقال النووي " ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق " . يعني الله تعالى . قال الله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان . وقال : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) . وكذا شرحه ابن التين وجماعة من المتأخرين ، وقرره الكرماني هكذا ، فقال : ما خافه أي : ما خاف من الله ، فحذف الجار وأوصل الفعل إليه . قلت : وهذا الكلام وإن كان صحيحا لكنه خلاف مراد [ ص: 137 ] المصنف ومن نقل عنه . والذي أوقعهم في هذا هو الاختصار . وإلا فسياق كلام الحسن البصري يبين أنه إنما أراد النفاق ، فلنذكره . قال جعفر الفريابي : حدثنا قتيبة حدثنا جعفر بن سليمان عن المعلى بن زياد سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق ، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن . وكان يقول : من لم يخف النفاق فهو منافق . وقال أحمد بن حنبل في كتاب الإيمان : حدثنا روح بن عبادة حدثنا هشام سمعت الحسن يقول : والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق ، وما أمنه إلا منافق ، انتهى . وهذا موافق لأثر ابن أبي مليكة الذي قبله وهو قوله " كلهم يخاف النفاق على نفسه " . والخوف من الله وإن كان مطلوبا محمود لكن سياق الباب في أمر آخر ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وما يحذر ) هو بضم أوله وتشديد الذال المعجمة ويروى بتخفيفها ، وما مصدرية ، والجملة في محل جر لأنها معطوفة على خوف ، أي : باب ما يحذر . وفصل بين الترجمتين بالآثار التي ذكرها لتعلقها بالأولى فقط ، وأما الحديثان فالأول منهما تعلق بالثانية والثاني يتعلق بالأولى على ما سنوضحه ، ففيه لف ونشر غير مرتب على حد قوله : يوم تبيض وجوه الآية ، ومراده أيضا الرد على المرجئة حيث قالوا لا حذر من المعاصي مع حصول الإيمان ، ومفهوم الآية التي ذكرها يرد عليهم ; لأنه تعالى مدح من استغفر لذنبه ولم يصر عليه ، فمفهومه ذم من لم يفعل ذلك . ومما يدخل في معنى الترجمة قول الله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم . وقوله : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة وقوله تعالى لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وهذه الآية أدل على المراد مما قبلها ، فمن أصر على نفاق المعصية خشي عليه أن يفضي به إلى نفاق الكفر ، وكأن المصنف لمح بحديث عبد الله بن عمرو المخرج عند أحمد مرفوعا قال " ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون " أي يعلمون أن من تاب تاب الله عليه ثم لا يستغفرون ، قاله مجاهد وغيره . وللترمذي عن أبي بكر الصديق مرفوعا " ما أصر من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " إسناد كل منهما حسن .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( على التقاتل ) كذا في أكثر الروايات وهو المناسب لحديث الباب ، وفي بعضها ( على النفاق ) ومعناه صحيح وإن لم تثبت به الرواية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( زبيد ) قدم أنه بالزاي والموحدة مصغرا ، وهو ابن الحارث اليامي بياء تحتانية وميم خفيفة ، يكنى أبا عبد الرحمن ، وقد روى هذا الحديث شعبة أيضا عن منصور بن المعتمر وهو عند المصنف في الأدب ، وعن الأعمش وهو عند مسلم ، ورواه ابن حبان من طريق سليمان بن حرب عن شعبة عن الثلاثة جميعا عن أبي وائل ، وقال ابن منده : لم يختلف في رفعه عن زبيد واختلف على الآخرين . ورواه عن زبيد غير شعبة أيضا عند مسلم وغيره .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سألت أبا وائل عن المرجئة ) أي : عن مقالة المرجئة ، ولأبي داود الطيالسي عن شعبة عن زبيد قال : لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل فذكرت ذلك له . فظهر من هذا أن سؤاله كان عن معتقدهم ، وأن ذلك كان حين ظهورهم ، وكانت وفاة أبي وائل سنة تسع وتسعين وقيل سنة اثنتين وثمانين ، ففي ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة ، وقد تابع أبا وائل في رواية هذا الحديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن [ ص: 138 ] أبيه أخرجه الترمذي مصححا ولفظه قتال المسلم أخاه كفر ، وسبابه فسوق ، ورواه جماعة عن عبد الله بن مسعود موقوفا ومرفوعا ، ورواه النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أيضا مرفوعا ، فانتفت بذلك دعوى من زعم أن أبا وائل تفرد به .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سباب ) هو بكسر السين وتخفيف الموحدة ، وهو مصدر يقال : سب يسب سبا وسبابا ، وقال إبراهيم الحربي : السباب أشد من السب ، وهو أن يقول الرجل ما فيه وما ليس فيه يريد بذلك عيبه . وقال غيره : السباب هنا مثل القتال فيقتضي المفاعلة ، وقد تقدم بأوضح من هذا في باب المعاصي من أمر الجاهلية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( المسلم ) كذا في معظم الروايات ، ولأحمد عن غندر عن شعبة " المؤمن " ، فكأنه رواه بالمعنى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فسوق ) الفسق في اللغة الخروج ، وفي الشرع : الخروج عن طاعة الله ورسوله ، وهو في عرف الشرع أشد من العصيان ، قال الله تعالى وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ، ففي الحديث تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بغير حق بالفسق ، ومقتضاه الرد على المرجئة . وعرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم كأنه قال : كيف تكون مقالتهم حقا والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا ؟!

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقتاله كفر ) إن قيل : هذا وإن تضمن الرد على المرجئة لكن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي . فالجواب : إن المبالغة في الرد على المبتدع اقتضت ذلك ، ولا متمسك للخوارج فيه ; لأن ظاهره غير مراد ، لكن لما كان القتال أشد من السباب - لأنه مفض إلى إزهاق الروح - عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر ، ولم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة ، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير ، معتمدا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يخرج عن الملة ، مثل حديث الشفاعة ، ومثل قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وقد أشرنا إلى ذلك في باب المعاصي من أمر الجاهلية . أو أطلق عليه الكفر لشبهه به ; لأن قتال المؤمن من شأن الكافر . وقيل : المراد هنا الكفر اللغوي وهو التغطية ; لأن حق المسلم على المسلم أن يعينه وينصره ويكف عنه أذاه ، فلما قاتله كان كأنه غطى على هذا الحق ، والأولان أليق بمراد المصنف وأولى بالمقصود من التحذير من فعل ذلك والزجر عنه بخلاف الثالث . وقيل أراد بقوله كفر أي قد يئول هذا الفعل بشؤمه إلى الكفر ، وهذا بعيد ، وأبعد منه حمله على المستحل لذلك لأنه لا يطابق الترجمة ، ولو كان مرادا لم يحصل التفريق بين السباب والقتال ، فإن مستحل لعن المسلم بغير تأويل يكفر أيضا . ثم ذلك محمول على من فعله بغير تأويل . وقد بوب عليه المصنف في كتاب المحاربين كما سيأتي إن شاء الله تعالى . ومثل هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ففيه هذه الأجوبة ، وسيأتي في كتاب الفتن ، ونظيره قوله تعالى أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض بعد قوله : ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم الآية . فدل على أن بعض الأعمال يطلق عليه الكفر تغليظا . وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم : لعن المسلم كقتله فلا يخالف هذا الحديث ; لأن المشبه به فوق المشبه ، والقدر الذي اشتركا فيه بلوغ الغاية في التأثير : هذا في العرض ، وهذا في النفس . والله أعلم . وقد ورد لهذا المتن سبب ذكرته في أول كتاب الفتن في أواخر الصحيح .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية