الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

فصل

عقوبة اللواط وعقوبة الزنى

في الأجوبة عما احتج به من جعل عقوبة هذه الفاحشة دون عقوبة الزنى .

أما قولهم : إنها معصية لم يجعل الله فيه حدا معينا ، فجوابه من وجوه :

أحدها : أن المبلغ عن الله جعل حد صاحبها القتل حتما ، وما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنما شرعه عن الله ، فإن أردتم أن حدها غير معلوم بالشرع فهو باطل ، وإن أردتم أنه غير ثابت بنص الكتاب لم يلزم من ذلك انتفاء حكمه لثبوته بالسنة .

الثاني : أن هذا ينتقض عليكم بالرجم ، فإنه إنما ثبت بالسنة .

فإن قلتم : بل ثبت بقرآن نسخ لفظه وبقي حكمه .

قلنا : فينقض عليكم بحد شارب الخمر .

الثالث : أن نفي دليل معين لا يستلزم نفي مطلق الدليل ولا نفي المدلول ، فكيف وقد قدمنا أن الدليل الذي نفيتموه غير منتف ؟

وأما قولكم : إنه وطء لا تشتهيه الطباع ، بل ركب الله الطباع على النفرة منه ، فهو كوطء الميتة والبهيمة ، فجوابه من وجوه :

أحدها : أنه قياس فاسد الاعتبار ، مردود بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة كما تقدم بيانه .

الثاني : أن قياس وطء الأمرد الجميل الذي فتنته تربو على كل فتنة ، على وطء أتان أو امرأة ميتة من أفسد القياس ، وهل يعدل ذلك أحد قط بأتان أو بقرة أو ميتة ، أو سبى ذلك عقل عاشق ، أو أسر قلبه ، أو استولى على فكره ونفسه ؟ فليس في القياس أفسد من هذا .

الثالث : أن هذا منتقض بوطء الأم والبنت والأخت ، فإن النفرة الطبيعية عنه حاصلة مع أن الحد فيه من أغلظ الحدود - في أحد القولين - وهو القتل بكل حال محصنا كان أو غير [ ص: 175 ] محصن ، وهذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وهو قول إسحاق بن راهويه وجماعة من أهل الحديث .

وقد روى أبو داود والترمذي من حديث البراء بن عازب قال لقيت عمي ومعه الراية ، فقلت : إلى أين تريد ؟ قال بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه وآخذ ماله .

قال الترمذي : هذا حديث صحيح ، قال الجوزجاني : عم البراء اسمه الحارث بن عمرو .

في سنن أبي داود وابن ماجه من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من وقع على ذات محرم فاقتلوه .

ورفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها ، فقال : احبسوه وسلوا من هاهنا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسألوا عبد الله بن مطرف ، فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من تخطى حرم المؤمنين ، فخطوا وسطه بالسيف .

وفيه دليل على القتل بالتوسيط ، وهذا دليل مستقل في المسألة ، وأن من لا يباح وطؤه بحال فحد وطئه القتل ، دليله : من وقع على أمه أو ابنته ، وكذلك يقال في وطء ذوات المحارم ، ووطء من لا يباح وطؤه بحال ، فكان حده القتل كاللوطي .

والتحقيق : أن يستدل على المسألتين بالنص ، والقياس يشهد لصحة كل منهما ، وقد اتفق المسلمون على أن من زنى بذات محرمه فعليه الحد ، وإنما اختلفوا في صفة الحد ، هل هو القتل بكل حال ، أو حده حد الزاني ، على قولين :

فذهب الشافعي ومالك وأحمد - في إحدى روايتيه - : أن حده حد الزاني .

وذهب أحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث إلى : أن حده القتل بكل حال .

وكذلك اتفقوا كلهم على أنه لو أصابها باسم النكاح عالما بالتحريم أنه يحد ، إلا أبا حنيفة وحده ، فإنه رأى ذلك شبهة مسقطة للحد .

ومنازعوه يقولون : إذا أصابها باسم النكاح فقد زاد الجريمة غلظا وشدة ، فإنه ارتكب محذورين عظيمين : محذور العقد ، ومحذور الوطء ، فكيف تخفف عنه العقوبة بضم محذور الزنى ؟

وأما وطء الميتة ففيه قولان للفقهاء ، وهما في مذهب أحمد وغيره .

[ ص: 176 ] أحدهما : أنه يجب به الحد ، وهو قول الأوزاعي ، فإن فعله أعظم جرما وأكبر ذنبا انضم إلى فاحشته هتك حرمة الميتة .

التالي السابق


الخدمات العلمية