الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل

                                                                                                                2009 حدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحسن بن أعين حدثنا زهير حدثنا أبو إسحق قال سمعت البراء بن عازب يقول جاء أبو بكر الصديق إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا فقال لعازب ابعث معي ابنك يحمله معي إلى منزلي فقال لي أبي احمله فحملته وخرج أبي معه ينتقد ثمنه فقال له أبي يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها ثم بسطت عليه فروة ثم قلت نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك فنام وخرجت أنفض ما حوله فإذا أنا براعي غنم مقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا فلقيته فقلت لمن أنت يا غلام فقال لرجل من أهل المدينة قلت أفي غنمك لبن قال نعم قلت أفتحلب لي قال نعم فأخذ شاة فقلت له انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى قال فرأيت البراء يضرب بيده على الأخرى ينفض فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن قال ومعي إداوة أرتوي فيها للنبي صلى الله عليه وسلم ليشرب منها ويتوضأ قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكرهت أن أوقظه من نومه فوافقته استيقظ فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله فقلت يا رسول الله اشرب من هذا اللبن قال فشرب حتى رضيت ثم قال ألم يأن للرحيل قلت بلى قال فارتحلنا بعدما زالت الشمس واتبعنا سراقة بن مالك قال ونحن في جلد من الأرض فقلت يا رسول الله أتينا فقال لا تحزن إن الله معنا فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتطمت فرسه إلى بطنها أرى فقال إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي فادعوا لي فالله لكما أن أرد عنكما الطلب فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتكم ما هاهنا فلا يلقى أحدا إلا رده قال ووفى لنا وحدثنيه زهير بن حرب حدثنا عثمان بن عمر ح وحدثناه إسحق بن إبراهيم أخبرنا النضر بن شميل كلاهما عن إسرائيل عن أبي إسحق عن البراء قال اشترى أبو بكر من أبي رحلا بثلاثة عشر درهما وساق الحديث بمعنى حديث زهير عن أبي إسحق وقال في حديثه من رواية عثمان بن عمر فلما دنا دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخ فرسه في الأرض إلى بطنه ووثب عنه وقال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن يخلصني مما أنا فيه ولك علي لأعمين على من ورائي وهذه كنانتي فخذ سهما منها فإنك ستمر على إبلي وغلماني بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك قال لا حاجة لي في إبلك فقدمنا المدينة ليلا فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك فصعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون يا محمد يا رسول الله يا محمد يا رسول الله

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله : ( ينتقد ثمنه ) أي يستوفيه ، ويقال : سرى وأسرى لغتان بمعنى . وقائم الظهيرة نصف النهار ، وهو حال استواء الشمس ، سمي قائما لأن الظل لا يظهر ، فكأنه واقف قائم . ووقع في أكثر النسخ : ( قائم الظهر ) بضم الظاء وحذف الياء .

                                                                                                                قوله : ( رفعت لنا صخرة ) أي ظهرت لأبصارنا .

                                                                                                                قوله : ( فبسطت عليه فروة ) المراد الفروة المعروفة التي تلبس ، هذا هو الصواب ، وذكر القاضي أن بعضهم قال : المراد بالفروة هنا الحشيش ; فإنه يقال له فروة ، وهذا قول باطل ، ومما يرده قوله في رواية البخاري : ( فروة معي ) . ويقال لها ( فروة ) بالهاء ، و ( فرو ) بحذفها ، وهو الأشهر في اللغة ، وإن كانتا صحيحتين .

                                                                                                                قوله : ( أنفض لك ما حولك ) أي أفتش لئلا يكون هناك عدو .

                                                                                                                [ ص: 433 ] وقوله : ( لمن أنت يا غلام ؟ فقال : لرجل من أهل المدينة ) المراد بالمدينة هنا مكة ، ولم تكن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم سميت بالمدينة ، إنما كان اسمها يثرب ، هذا هو الجواب الصحيح ، وأما قول القاضي : إن ذكر المدينة هنا وهم فليس كما قال ، بل هو صحيح ، والمراد بها مكة .

                                                                                                                قوله : ( أفي غنمك لبن ؟ ) هو بفتح اللام والباء يعني اللبن المعروف ، هذه الرواية مشهورة ، وروى بعضهم : ( لبن ) بضم اللام وإسكان الباء ، أي شياه وذوات ألبان .

                                                                                                                قوله : ( فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن . قال : ومعي إداوة أرتوي فيها ) القعب قدح من خشب معروف ، والكثبة بضم الكاف وإسكان المثلثة وهي قدر الحلبة ، قاله ابن السكيت ، وقيل : هي القليل منه . والإداوة كالركوة . وأرتوي أستقي . وهذا الحديث مما يسأل عنه فيقال : كيف شربوا اللبن من الغلام ، وليس هو مالكه ؟ وجوابه من أوجه :

                                                                                                                أحدها أنه محمول على عادة العرب أنهم يأذنون للرعاة إذا مر بهم ضيف أو عابر سبيل أن يسقوه اللبن ونحوه .

                                                                                                                والثاني أنه كان لصديق لهم يدلون عليه ، وهذا جائز .

                                                                                                                والثالث أنه مال حربي لا أمان له ، ومثل هذا جائز .

                                                                                                                والرابع لعلهم كانوا مضطرين ، والجوابان الأولان أجود .

                                                                                                                قوله : ( برد أسفله ) هو بفتح الراء على المشهور ، وقال الجوهري بضمها .

                                                                                                                قوله : ( ونحن في جلد من الأرض ) هو بفتح الجيم واللام أي أرض صلبة . وروي : ( جدد ) بدالين ، وهو المستوي ، وكانت الأرض مستوية صلبة .

                                                                                                                قوله : ( فارتطمت فرسه إلى بطنها ) أي غاصت قوائمها في تلك الأرض الجلد .

                                                                                                                قوله : ( ووفى لنا ) بتخفيف الفاء .

                                                                                                                قوله : ( فساخ فرسه في الأرض ) هو بمعنى ارتطمت .

                                                                                                                قوله : ( لأعمين على من ورائي ) يعني لأخفين أمركم عمن ورائي ممن يطلبكم ، وألبسه عليهم حتى لا يعلم أحد .

                                                                                                                وفي هذا الحديث فوائد منها هذه المعجزة الظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفضيلة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه من وجوه .

                                                                                                                وفيه خدمة التابع للمتبوع .

                                                                                                                وفيه : استصحاب الركوة والإبريق ونحوهما في السفر للطهارة والشراب .

                                                                                                                وفيه فضل التوكل على الله سبحانه وتعالى وحسن عاقبته .

                                                                                                                وفيه فضائل الأنصار لفرحهم بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهور سرورهم به .

                                                                                                                وفيه فضيلة صلة الأرحام ، سواء [ ص: 434 ] قربت القرابة والرحم أم بعدت ، وأن الرجل الجليل إذا قدم بلدا له فيه أقارب ينزل عندهم يكرمهم بذلك . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية