الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 164 ] مسألة [ الحكم هل هو قطعي أم ظني ؟ ] أطلق ابن برهان في كتابه الكبير هنا أن الحكم عندنا قطعي خلافا لأبي حنيفة ، فإنه عنده ظني ، وبين مراده به في باب القياس ، فقال : الحكم قطعي في الأحوال كلها سواء أضيف إلى الدليل القطعي أو الظني ; لأن الحكم قطعي ثابت عند الظن لا بالظن ، والقطع غير معتبر . انتهى .

                                                      يريد أن الظن في الشرعيات ينزل منزلة العلم القطعي في القطعيات . والحكم قطعي ; لأن ثبوت الحكم عند وجود غلبات الظنون قطعي فلا ينصرف إليه الظن . ومثاله : حكم القاضي بقول الشهود ظني ، ولكن الحكم عند ظن الصدق واجب قطعي ، وهو حاصل كلام المحصول في جوابه عن قولهم : الفقه من باب الظنون بناء على أن الحكم مبني على مقدمتين قطعيتين ، وما انبنى على القطعي قطعي ; لأنه يبنى على حصول الظن ، وحصوله وجداني ، وعلى أن ما غلب على الظن فحكم الله فيه العمل بمقتضاه ، وهذه مقدمة إجماعية ، وما أجمع عليه فهو مقطوع به ، فثبت أنه مبني على مقدمتين قطعيتين ، واللازم منه أنه قطعي . لكن الحق انقسام الحكم إلى قطعي وظني ، وممن صرح بذلك من الأقدمين الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب " الحدود " ، ومن المتأخرين ابن السمعاني في " القواطع " . [ ص: 165 ] قال : وإنما قالوا : الفقه العلم بأحكام الشريعة مع أن فيه ظنيات كثيرة ; لأن ما كان فيه من الظنيات فهي مستندة إلى العلميات ، وقال ابن التلمساني : إنه الحق ، واختار الشافعي أن المصيب واحد على ما نبين في باب الاجتهاد ، ووجوب اعتقاد أن هذا حكم الله ، أو الفتوى به ، أو القضاء غير نفس الحكم بأن هذا حلال أو حرام أو صحيح أو فاسد ، لاختلاف المتعلقات فيها .

                                                      وقال الأصفهاني : في " شرح المحصول " : من الأحكام ما يثبت بأدلة حصل العلم بمقتضاها ، وذلك في الأحكام الثابتة بنصوص احتفت بقرائن تدفع الاحتمالات المتعارضة عنها بانحصار تعيين المدلول في واحد ، ومنه ما ثبت بأخبار آحاد . أو نصوص لم تعتضد بما يدفع الاحتمالات ، فتلك الأحكام مظنونة لا معلومة . قال : وهذا هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ويؤيده أن الأحكام لو كانت بأسرها معلومة لما انقسمت الطرق إلى الأدلة والأمارة ، ولما انتظم قولهم في المقدمات : إن كانت علمية فالنتيجة علمية ، وإن كانت ظنية فالنتيجة ظنية ، وإن كان بعضها علما وبعضها ظنيا فالنتيجة ظنية . وقال ابن دقيق العيد : إن الأحكام تنقسم إلى متواترات ، وهي مقطوع بها ، وإلى ما ليس كذلك ، وهي مظنونة ، وبرهانه : أن الظن من الصفات المتعلقة أي : لا بد له من مظنون ، ومتعلقه الحكم المتعين أو الأحكام التي هي غير بالغة حد التواتر عن صاحب الشرع ، فنركب قياسا . فنقول : هذه الأحكام ، أو هذا الحكم المعين متعلق [ ص: 166 ] الظن وما هو متعلق الظن فهو مظنون ، أو هذا الحكم مظنون . ثم نقول : هذه الأحكام مظنونة ، ولا شيء من المظنون بمعلوم فلا شيء من هذه الأحكام بمعلوم . وأما الدليل الذي ذكره الرازي فإنما ينتج بأن العمل بمقتضى الظن معلوم ، وهو بعد تسليم كون الإجماع قطعيا مسلم ، ولكنه حكم من الأحكام الشرعية ، وليس هو الأحكام الفقهية التي في أعيان المسائل التي تقام عليها الأدلة العلمية ، والذي يحقق هذا أنا نبني هذه المسألة على ما نختاره ، وهو أن لله حكما معينا في الواقعة ، وهو مطلوب المجتهدين ، ومنصوب عليه الدلائل ، فمن أصاب ذلك الحكم فهو مصيب مطلقا ، ومن أخطأه فلله عليه حكم آخر شرطه عدم إدراك ذلك الحكم الأول بعد الاجتهاد ، وهو وجوب المصير إلى ما غلب على ظنه ، وهذا الحكم معلوم . وليس يلزم من كون هذا معلوما كون الأول معلوما .

                                                      وقال في موضع آخر : المختار أن لله تعالى في الواقعة حكما معينا طلب العباد أن يقفوا عليه بدلائله المنصوبة ، وليس هذا بالحكم الأصلي . فإذا لم يقع العثور عليه أو ظن أن الحكم غيره نشأ هاهنا حكم آخر بهذه الحالة ، وهو وجوب العمل بما غلب على ظنه ، وليسم هذا بالحكم الفرعي ، وبهذا يتبين الرد على أن الأحكام معلومة من حيث إنها مبنية على مقدمتين قطعيتين ، وما كان مبنيا على مقدمتين قطعيتين فهو معلوم ، فالفقه معلوم ، وقرر كونها مبنية على مقدمتين قطعيتين بأنها مبنية على قيام الظن بالأحكام ، وعلى أن الإجماع قائم على أن الواجب على المجتهد اتباع ظنه فيرتب [ ص: 167 ] هذا الحكم على مقدمة وجدانية ومقدمة إجماعية وكلتاهما قطعيتان . فنقول : الذي ثبت من هذا أن وجوب العمل بمقتضى الظن قطعي ; لأنا نقول هكذا : الظن بهذا الحكم حاصل قطعا ، وإذا حصل الظن بحكم وجب العمل بمقتضى الظن فيه قطعا ، فوجب العمل بمقتضى الظن في هذا الحكم قطعا . لكن هذه النتيجة مسألة من مسائل الفقه ، ونحن لا نمنع أن بعض الأحكام معلومة قطعا .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية