الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والأشياء التي تجب فيها الدية فيما دون النفس هي شجاج وأعضاء ، فلنبدأ بالقول في الشجاج .

[ القول في ديات الشجاج ]

والنظر في هذا الباب في محل الوجوب وشرطه وقدره الواجب ، وعلى من تجب ؟ ومتى تجب ؟ ولمن تجب ؟

فأما محل الوجوب فهي الشجاج أو قطع الأعضاء ، والشجاج عشرة في اللغة والفقه : أولها الدامية ( وهي التي تدمي الجلد ) ، ثم الخارصة ( وهي التي تشق الجلد ) ، ثم الباضعة ( وهي التي تبضع اللحم : أي : تشقه ) ، ثم المتلاحمة ( وهي التي أخذت في اللحم ) ، ثم السمحاق ( وهي التي تبلغ السمحاق وهو الغشاء الرقيق بين اللحم والعظم ) ، ويقال لها : الملطاء بالمد والقصر ، ثم الموضحة ( وهي التي توضح العظم أي : تكشفه ) ، ثم الهاشمة ( وهي التي تهشم العظم ) ، ثم المنقلة ( وهي التي يطير العظم منها ) ، ثم المأمومة [ ص: 736 ] ( وهي التي تصل أم الدماغ ) ، ثم الجائفة ( وهي التي تصل إلى الجوف ) ، وأسماء هذه الشجاج مختصة بما وقع بالوجه منها والرأس دون سائر البدن ، واسم الجرح يختص بما وقع في البدن ، فهذه أسماء هذه الشجاج .

فأما أحكامها ( أعني : الواجب فيها ) ، فاتفق العلماء على أن العقل واقع في عمد الموضحة وما دون الموضحة خطأ . واتفقوا على أنه ليس فيما دون الموضحة خطأ عقل ، وإنما فيها حكومة ، قال بعضهم : أجرة الطبيب ، إلا ما روي عن عمر وعثمان أنهما قضيا في السمحاق بنصف دية الموضحة ، وروي عن علي أنه قضى فيها بأربع من الإبل ، وروي عن زيد بن ثابت أنه قال : في الدامية بعير ، وفي الباضعة بعيران ، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة ، وفي السمحاق أربعة ، والجمهور من فقهاء الأمصار على ما ذكرنا ، وذلك أن الأصل في الجراح الحكومة إلا ما وقتت فيه السنة حدا ، ومالك يعتبر في إلزام الحكومة فيما دون الموضحة أن تبرأ على شين ، والغير من فقهاء الأمصار يلزم فيها الحكومة برئت على شين أو لم تبرأ فهذه هي أحكام ما دون الموضحة .

فأما الموضحة فجميع الفقهاء على أن فيها إذا كانت خطأ خمسا من الإبل ، وثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه لعمرو بن حزم ، ومن حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " في الموضحة خمس " يعني من الإبل .

واختلف العلماء في موضع الموضحة من الجسد بعد اتفاقهم على ما قلنا ( أعني : على وجوب القصاص في العمد ووجوب الدية في الخطأ منها ) ، فقال مالك : لا تكون الموضحة إلا في جهة الرأس والجبهة والخدين واللحي الأعلى ، ولا تكون في اللحي الأسفل ; لأنه في حكم العنق ولا في الأنف . وأما الشافعي وأبو حنيفة فالموضحة عندهما في جميع الوجه والرأس .

والجمهور على أنها لا تكون في الجسد وقال الليث وطائفة : تكون في الجنب ، وقال الأوزاعي : إذا كانت في الجسد كانت على النصف من ديتها في الوجه والرأس . وروي عن عمر أنه قال : في موضحة الجسد نصف عشر دية ذلك العضو .

وغلظ بعض العلماء في موضحة الوجه تبرأ على شين ، فرأى فيها مثل نصف عقلها زائدا على عقلها ، وروى ذلك مالك عن سليمان بن يسار ، واضطرب قول مالك في ذلك ، فمرة قال بقول سليمان بن يسار ، ومرة قال : لا يزاد فيها على عقلها شيء ، وبه قال الجمهور ، وقد قيل عن مالك إنه قال : إذا شانت الوجه كان فيها حكومة من غير توقيف ، ومعنى الحكومة عند مالك ما نقص من قيمته أن لو كان عبدا .

وأما الهاشمة ففيها عند الجمهور عشر الدية ، وروي ذلك عن زيد بن ثابت ، ولا مخالف له من الصحابة ، وقال بعض العلماء : الهاشمة هي المنقلة وشذ .

وأما المنقلة فلا خلاف أن فيها عشر الدية ونصف العشر إذا كانت خطأ ، فأما إذا كانت عمدا ، فجمهور العلماء على أن ليس فيها قود لمكان الخوف . وحكي عن ابن الزبير أنه أقاد منها ومن المأمومة .

وأما الهاشمة في العمد . فروى ابن القاسم عن مالك أنه ليس فيها قود . ومن أجاز القود من المنقلة كان أحرى أن يجيز ذلك من الهاشمة .

[ ص: 737 ] وأما المأمومة فلا خلاف أنه لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية إلا ما حكي عن ابن الزبير .

وأما الجائفة فاتفقوا على أنها من جراح الجسد لا من جراح الرأس وأنها لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية وأنها جائفة متى وقعت في الظهر والبطن . واختلفوا إذا وقعت في غير ذلك من الأعضاء فنفذت إلى تجويفه ، فحكى مالك عن سعيد بن المسيب أن في كل جراحة نافذة إلى تجويف عضو من الأعضاء - أي عضو كان - ثلث دية ذلك العضو . وحكى ابن شهاب أنه كان لا يرى ذلك وهو الذي اختاره مالك ; لأن القياس عنده في هذا لا يسوغ ، وإنما سنده في ذلك الاجتهاد من غير توقيف ، وأما سعيد فإنه قاس ذلك على الجائفة على نحو ما روي عن عمر في موضحة الجسد .

وأما الجراحات التي تقع في سائر الجسد فليس في الخطأ منها إلا الحكومة .

التالي السابق


الخدمات العلمية