الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 501 ] 83

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين

ذكر بقية الوقعة بدير الجماجم

فلما حملت كتائب الحجاج الثلاث على القراء من أصحاب عبد الرحمن وعليهم جبلة بن زحر نادى جبلة : يا عبد الرحمن بن أبي ليلى ! يا معشر القراء ! إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم ، إني سمعت علي بن أبي طالب - رفع الله درجته في الصالحين ، وآتاه ثواب الصادقين والشهداء - يقول يوم لقينا أهل الشام : أيها المؤمنون ، إنه من رأى عدوانا يعمل به ، ومنكرا يدعى إليه ، فأنكره بقلبه - فقد سلم وبرئ ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه ، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى ، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ، ونور في قلبه اليقين ، فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين جهلوا الحق فلا يعرفونه ، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه .

وقال أبو البختري : أيها الناس ، قاتلوهم على دينكم ودنياكم . فقال الشعبي : أيها الناس ، قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم ، والله ما أعلم على بسيط الأرض أعمل بظلم ، ولا أجور في حكم ، منهم . وقال سعيد بن جبير نحو ذلك ، وقال جبلة : احملوا عليهم حملة صادقة ، ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى تواقعوا صفهم .

فحملوا عليهم حملة صادقة ، فضربوا الكتائب حتى أزالوها وفرقوها ، وتقدموا حتى واقعوا صفهم ، فأزالوه عن مكانه ، ثم رجعوا فوجدوا جبلة بن زحر قتيلا لا يدرون كيف قتل .

وكان سبب قتله أن أصحابه لما حملوا على أهل الشام ففرقوهم وقف لأصحابه ليرجعوا إليه ، فافترقت فرقة من أهل الشام فوقفت ناحية ، فلما رأوا أصحاب جبلة قد [ ص: 502 ] تقدموا ، قال بعضهم لبعض : هذا جبلة ، احملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال . فحملوا عليه فلم يول ، لكنه حمل عليهم فقتلوه ، وكان الذي قتله ، الوليد بن نحيت الكلبي ، وجيء برأسه إلى الحجاج ، فبشر أصحابه بذلك . فلما رجع أصحاب جبلة ورأوه قتيلا سقط في أيديهم وتناعوه بينهم ، فقال لهم أبو البختري : لا يظهرن عليكم قتل جبلة ، إنما كان كرجل منكم أتته منيته ، فلم يكن ليتقدم [ يومه ] ولا ليتأخر [ عنه ] . وظهر الفشل في القراء ، وناداهم أهل الشام : يا أعداء الله ، قد هلكتم ، وقد قتل طاغيتكم !

وقدم عليهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني ، ففرحوا به وقالوا : تقدم مقام جبلة . وكان قدومه من الري ، فلما أتى عبد الرحمن جعله على ربيعة ، وكان شجاعا ، فقاتل يوما ، فدخل عسكر الحجاج ، فأخذ أصحابه ثلاثين امرأة فأطلقهن . فقال الحجاج : منعوا نساءهم ، لو لم يردوهن لسبيت نساءهم إذا ظهرت عليهم .

وخرج عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد ، فدعا إلى المبارزة ، فخرج إليه رجل من أهل الشام ، فتضاربا ، فقال كل واحد منهما : أنا الغلام الكلابي . فقال كل واحد منهما لصاحبه : من أنت ؟ وإذا هما ابنا عم ، فتحاجزا . وخرج عبد الله بن رزام الحارثي ، فطلب المبارزة ، فخرج إليه رجل من عسكر الحجاج فقتله ، ثم فعل ذلك ثلاثة أيام .

فلما كان اليوم الرابع خرج ، فقالوا : جاء لا جاء الله به ! فطلب المبارزة ، فقال الحجاج للجراح : اخرج إليه . فخرج إليه . فقال له عبد الله ، وكان له صديقا : ويحك يا جراح ما أخرجك ؟ قال : ابتليت بك . قال : فهل لك في خير ؟ قال الجراح : ما هو ؟ قال عبد الله : أنهزم لك وترجع إلى الحجاج ، وقد أحسنت عنده وحمدك ، وأما أنا فأحتمل مقالة الناس في انهزامي حبا لسلامتك ، فإني لا أحب قتل مثلك من قومي . قال : افعل . فحمل الجراح على عبد الله فاستطرد له عبد الله ، وحمل عليه الجراح بجد يريد قتله ، فصاح لعبد الله غلامه ، وكان ناحية معه ماء ليشربه ، وقال له : يا سيدي ، إن الرجل يريد قتلك ! فعطف عبد الله على الجراح ، فضربه بعمود على رأسه فصرعه ، وقال له : يا جراح ، بئس ما جزيتني ! أردت بك العافية وأردت قتلي ! انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة .

وكان سعيد بن جبير وأبو البختري الطائي يحملان على أهل الشام بعد قتل جبلة بن زحر حتى يخالطاهم ، وكانت مدة الحرب مائة يوم وثلاثة أيام ; لأنه كان نزولهم [ ص: 503 ] بالجماجم لثلاث مضين من ربيع الأول ، وكانت الهزيمة لأربع عشرة مضين من جمادى الآخرة .

فلما كان يوم الهزيمة اقتتلوا أشد قتال ، واستظهر أصحاب عبد الرحمن على أصحاب الحجاج ، واستعلوا عليهم وهم آمنون أن يهزموا . فبينا هم كذلك إذ حمل سفيان بن الأبرد ، وهو في ميمنة الحجاج ، على الأبرد بن قرة التميمي ، وهو على ميسرة عبد الرحمن ، فانهزم الأبرد بن قرة من غير قتال يذكر ، فظن الناس أنه قد كان صولح على أن ينهزم بالناس ، فلما انهزم تقوضت الصفوف من نحوه وركب الناس بعضهم بعضا ، وصعد عبد الرحمن المنبر ينادي الناس : إلي عباد الله . فاجتمع إليه جماعة ، فثبت حتى دنا منه أهل الشام ، فقاتل من معه ، ودخل أهل الشام العسكر ، فأتاه عبد الله بن يزيد بن المفضل الأزدي فقال له : انزل ، فإني أخاف عليك أن تؤسر ، ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعا يهلكهم الله به .

فنزل هو ومن معه لا يلوون على شيء ، ثم رجع الحجاج إلى الكوفة ، وعاد محمد بن مروان إلى الموصل ، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام ، وأخذ الحجاج يبايع الناس ، وكان يبايع أحدا إلا قال له : اشهد أنك كفرت ، فإن قال : نعم ، بايعه ، وإلا قتله ، فأتاه رجل من خشعم كان معتزلا للناس جميعا ، فسأله عن حاله فأخبره باعتزاله ، فقال له : أنت متربص ، أتشهد أنك كافر ؟ قال : بئس الرجل أنا ! أعبد الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر ! قال : إذا أقتلك . قال : وإن قتلتني . فقتله ، ولم يبق أحد من أهل الشام والعراق إلا رحمه .

ثم دعا بكميل بن زياد فقال له : أنت المقتص من أمير المؤمنين عثمان ؟ ( قد كنت أحب من أن أجد ) عليك سبيلا . قال : على أينا أنت أشد غضبا ، عليه حين أقاد من نفسه ، أم علي حين عفوت عنه ؟ ثم قال : أيها الرجل من ثقيف ، ( لا تصرف علي أنيابك ، ولا تكشر ) علي كالذئب ، والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار ، اقض ما أنت قاض ، فإن الموعد الله ، وبعد القتل الحساب . قال الحجاج : فإن الحجة عليك . قال : ذلك إذا كان القضاء إليك . فأمر به فقتل ، وكان خصيصا بأمير المؤمنين . وأتي بآخر من بعده ، فقال له الحجاج : أرى رجلا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر . فقال له الرجل : أتخادعني عن نفسي ؟ أنا أكفر أهل الأرض ، وأكفر من فرعون . فضحك منه وخلى سبيله .

[ ص: 504 ] وأقام بالكوفة شهرا ، وأنزل أهل الشام بيوت أهل الكوفة ، أنزلهم الحجاج فيها مع أهلها ، ( وهو أول من أنزل الجند في بيوت غيرهم ، وهو إلى الآن لا سيما في بلاد العجم ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية