الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه

                                                                                                                                                                                                        3648 حدثني عمرو بن عباس حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا المثنى عن أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واسمع من قوله ثم ائتني فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر فقال له رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر فقال ما شفيتني مما أردت فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل فاضطجع فرآه علي فعرف أنه غريب فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى فعاد إلى مضجعه فمر به علي فقال أما نال للرجل أن يعلم منزله فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي على مثل ذلك فأقام معه ثم قال ألا تحدثني ما الذي أقدمك قال إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت ففعل فأخبره قال فإنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه فسمع من قوله وأسلم مكانه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري قال والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه وأتى العباس فأكب عليه قال ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشأم فأنقذه منهم ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه [ ص: 211 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 211 ] قوله : ( باب إسلام أبي ذر الغفاري ) هو جندب - وقيل : بريد - ابن جنادة بضم الجيم والنون الخفيفة ابن سفيان - وقيل : سفير - ابن عبيد بن حرام بالمهملتين ابن غفار ، وغفار من بني كنانة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا المثنى ) هو ابن سعيد الضبعي ، له في البخاري حديثان : هذا وآخر تقدم في ذكر بني إسرائيل ، وأبو جمرة هو بالجيم نصر بن عمران .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إن أبا ذر قال لأخيه ) هو أنيس .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( اركب إلى هذا الوادي ) أي وادي مكة ، وفي أول رواية أبي قتيبة الماضية في مناقب قريش " قال لنا ابن عباس : " ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟ قال : قلنا : بلى . قال : قال أبو ذر : كنت رجلا من غفار " وهذا السياق يقتضي أن ابن عباس تلقاه من أبي ذر ، وقد أخرج مسلم قصة إسلام أبي ذر من طريق عبد الله بن الصامت عنه وفيها مغايرة كثيرة لسياق ابن عباس ، ولكن الجمع بينهما ممكن وأول حديثه " خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام ، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا ، فنزلنا على خال لنا ، فحسدنا قومه فقالوا له : إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس ، فذكر لنا ذلك فقلنا له : أما ما مضى لنا من معروفك فقد كدرته ، فتحملنا عليه ، وجلس يبكي ، فانطلقنا نحو مكة ، فنافر أخي أنيس رجلا إلى الكاهن ، فخير أنيسا ، فأتانا بصرمتنا ومثلها معها ، قال وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين ، قلت : لمن ؟ قال : لله . قلت : فأين توجه ؟ قال : حيث يوجهني ربي . قال : فقال لي أنيس : إن لي حاجة بمكة . فانطلق ، ثم جاء فقلت : ما صنعت ؟ قال : لقيت رجلا بمكة على دينك ، يزعم أن الله أرسله . قلت : فما يقول الناس ؟ قال : يقولون : شاعر كاهن ساحر . وكان أنيس شاعرا ، فقال : لقد سمعت كلام الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد [ ص: 212 ] وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم عليها ، والله إنه لصادق . قلت : وهذا الظاهر مغاير لقوله في حديث الباب : " إن أبا ذر قال لأخيه : ما شفيتني " ويمكن الجمع بأنه كان أراد منه أن يأتيه بتفاصيل من كلامه وأخباره فلم يأته إلا بمجمل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فانطلق الأخ ) في رواية الكشميهني " فانطلق الآخر " أي أنيس ، قال عياض : وقع عند بعضهم " فانطلق الأخ الآخر " والصواب الاقتصار على أحدهما ؛ لأنه لا يعرف لأبي ذر إلا أخ واحد وهو أنيس . قلت : وعند مسلم من طريق عبد الرحمن بن مهدي - أي عن المثنى - " فانطلق الآخر " حسب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حتى قدمه ) أي الوادي وادي مكة ، وفي رواية ابن مهدي " فانطلق الآخر حتى قدم مكة " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ، وكلاما ما هو بالشعر ) كذا في هذه الرواية ، ووافقها عبد الرحمن بن مهدي عند مسلم ، وقوله : " وكلاما " منصوب بالعطف على الضمير المنصوب ، وفيه إشكال لأن الكلام لا يرى . ويجاب عنه بأنه من قبيل " علفتها تبنا وماء باردا " وفيه الوجهان : الإضمار أي وسقيتها ، أو ضمن العلف معنى الإعطاء . وهنا يمكن أن يقال : التقدير رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ، وسمعته يقول كلاما ما هو بالشعر . أو ضمن الرؤية معنى الأخذ عنه . ووقع في رواية أبي قتيبة " رأيته يأمر بالخير وينهى عن الشر " ولا إشكال فيها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وكره أن يسأل عنه ) لأنه عرف أن قومه يؤذون من يقصده أو يؤذونه بسبب قصد من يقصده ، أو لكراهتهم في ظهور أمره لا يدلون من يسأل عنه عليه ، أو يمنعونه من الاجتماع به ، أو يخدعونه حتى يرجع عنه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فرآه علي بن أبي طالب ) وهذا يدل على أن قصة أبي ذر وقعت بعد المبعث بأكثر من سنتين بحيث يتهيأ لعلي أن يستقل بمخاطبة الغريب ويضيفه ، فإن الأصح في سن علي حين المبعث كان عشر سنين وقيل أقل من ذلك ، هذا الخبر يقوي القول الصحيح في سنه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فعرف أنه غريب ) في رواية : أبي قتيبة " فقال : كأن الرجل غريب . قلت : نعم " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلما رآه تبعه ) في رواية أبي قتيبة " قال : فانطلق إلى المنزل ، فانطلقت معه " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أما نال للرجل ) أي أما حان ، يقال : نال له بمعنى آن له ، ويروى " أما آن " بمد الهمزة و " آنى " بالقصر وبفتح النون وكلها بمعنى ، وقد تقدم في قصة الهجرة في قول أبي بكر الصديق : " أما آن للرحيل " مثله وقوله : " أن يعلم منزله " أي مقصده ، ويحتمل أن يكون علي أشار بذلك إلى دعوته إلى بيته لضيافته ثانيا ، وتكون إضافة المنزل إليه مجازية لكونه قد نزل به مرة ، ويؤيد الأول قول أبي ذر في جوابه " قلت : لا " كما في رواية أبي قتيبة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يوم الثالث ) كذا فيه ، وهو كقولهم : مسجد الجامع ، وليس من إضافة الشيء إلى نفسه عند التحقيق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فعاد علي على مثل ذلك ) في رواية الكشميهني " فغدا على مثل ذلك " وفي رواية أبي قتيبة " فقال : فانطلق معي " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لترشدنني ) كذا للأكثر بنونين ، وفي رواية الكشميهني بواحدة مدغمة .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 213 ] قوله : ( فأخبرته ) كذا للأكثر وفيه التفات ، وفي رواية الكشميهني " فأخبره " على نسق ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قمت كأني أريق الماء ) في رواية أبي قتيبة ( كأني أصلح نعلي ) ويحمل على أنه قالهما جميعا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فانطلق يقفوه ) أي يتبعه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ودخل معه ) قال الداودي : فيه الدخول بدخول المتقدم ، وكأن هذا قبل آية الاستئذان ، وتعقبه ابن التين فقال : لا تؤخذ الأحكام من مثل هذا . قلت : وفي كلام كل منهما من النظر ما لا يخفى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فسمع من قوله وأسلم مكانه ) كأنه كان يعرف علامات النبي ، فلما تحققها لم يتردد في الإسلام ، هكذا في هذه الرواية ، ومقتضاها أن التقاء أبي ذر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان بدلالة علي ، وفي رواية عبد الله بن الصامت أن أبا ذر لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر في الطواف بالليل ، قال : فلما قضى صلاته ، قلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته . قال : فكنت أول من حياه بالسلام . قال : من أين أنت ؟ قلت : من بني غفار . قال : فوضع يده على جبهته ، فقلت : كره أن انتميت إلى غفار فذكر الحديث في شأن زمزم ، وأنه استغنى بها عن الطعام والشراب ثلاثين من بين يوم وليلة ، وفيه " فقال أبو بكر : ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة ، وأنه أطعمه من زبيب الطائف " الحديث وأكثره مغاير لما في حديث ابن عباس هذا عن أبي ذر ، ويمكن التوفيق بينهما بأنه لقيه أولا مع علي ثم لقيه في الطواف أو بالعكس ، وحفظ كل منهما عنه ما لم يحفظ الآخر ، كما في رواية عبد الله بن الصامت من الزيادة ما ذكرناه ففي رواية ابن عباس أيضا من الزيادة قصته مع علي وقصته مع العباس وغير ذلك . وقال القرطبي : في التوفيق بين الروايتين تكلف شديد ، ولا سيما أن في حديث عبد الله بن الصامت أن أبا ذر أقام ثلاثين لا زاد له ، وفي حديث ابن عباس أنه كان معه زاد وقربة ماء إلى غير ذلك . قلت : ويحتمل الجمع بأن المراد بالزاد في حديث ابن عباس ما تزوده لما خرج من قومه ففرغ لما أقام بمكة ، والقربة التي كانت معه كان فيها الماء حال السفر فلما أقام بمكة لم يحتج إلى ملئها ولم يطرحها ، ويؤيده أنه وقع في رواية أبي قتيبة المذكورة " فجعلت لا أعرفه ، وأكره أن أسأل عنه ، وأشرب من ماء زمزم ، وأكون في المسجد " الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري ) في رواية أبي قتيبة اكتم هذا الأمر ، وارجع إلى قومك فأخبرهم ، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل وفي رواية عبد الله بن الصامت إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل ، فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك فذكر قصة إسلام أخيهأنيس وأمه وأنهم توجهوا إلى قومهم غفار فأسلم نصفهم ، الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لأصرخن بها ) أي بكلمة التوحيد ، والمراد أنه يرفع صوته جهارا بين المشركين ، وكأنه فهم أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالكتمان ليس على الإيجاب بل على سبيل الشفقة عليه ، فأعلمه أن به قوة على ذلك ، ولهذا أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، يؤخذ منه جواز قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله وإن كان السكوت جائزا ، والتحقيق أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد ، وبحسب ذلك يترتب وجود الأجر وعدمه .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 214 ] قوله : ( ثم قام القوم ) في رواية أبي قتيبة " فقالوا : إلى هذا الصابي " بالياء اللينة " فقاموا " وكانوا يسمون من أسلم صابيا ؛ لأنه من صبا يصبو إذا انتقل من شيء إلى شيء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فضربوه حتى أوجعوه ) في رواية أبي قتيبة " فضربت لأموت " أي ضربت ضربا لا يبالي من ضربني أن لو أموت منه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأقلعوا عني ) [1] أي كفوا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأكب العباس عليه ) في رواية أبي قتيبة " فقال مثل مقالته بالأمس " وفي الحديث ما يدل على حسن تأتي العباس وجودة فطنته حيث توصل إلى تخليصه منهم بتخويفهم من قومه أن يقاصوهم بأن يقطعوا طرق متجرهم ، وكان عيشهم من التجارة ، فلذلك بادروا إلى الكف عنه ، وفي الحديث دلالة على تقدم إسلام أبي ذر ، لكن الظاهر أن ذلك كان بعد المبعث بمدة طويلة لما فيه من الحكاية عن علي كما قدمناه ، ومن قوله أيضا في رواية عبد الله بن الصامت " إني وجهت لي أرض ذات نخل " ، فإن ذلك يشعر بأن وقوع ذلك كان قرب الهجرة والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية