الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب القسامة في الجاهلية

                                                                                                                                                                                                        3632 حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا قطن أبو الهيثم حدثنا أبو يزيد المدني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن أول قسامة كانت في الجاهلية لفينا بني هاشم كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى فانطلق معه في إبله فمر رجل به من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه فقال أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل فأعطاه عقالا فشد به عروة جوالقه فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا فقال الذي استأجره ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل قال ليس له عقال قال فأين عقاله قال فحذفه بعصا كان فيها أجله فمر به رجل من أهل اليمن فقال أتشهد الموسم قال ما أشهد وربما شهدته قال هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر قال نعم قال فكتب إذا أنت شهدت الموسم فناد يا آل قريش فإذا أجابوك فناد يا آل بني هاشم فإن أجابوك فسل عن أبي طالب فأخبره أن فلانا قتلني في عقال ومات المستأجر فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب فقال ما فعل صاحبنا قال مرض فأحسنت القيام عليه فوليت دفنه قال قد كان أهل ذاك منك فمكث حينا ثم إن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم فقال يا آل قريش قالوا هذه قريش قال يا آل بني هاشم قالوا هذه بنو هاشم قال أين أبو طالب قالوا هذا أبو طالب قال أمرني فلان أن أبلغك رسالة أن فلانا قتله في عقال فأتاه أبو طالب فقال له اختر منا إحدى ثلاث إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت حلف خمسون من قومك إنك لم تقتله فإن أبيت قتلناك به فأتى قومه فقالوا نحلف فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له فقالت يا أبا طالب أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ففعل فأتاه رجل منهم فقال يا أبا طالب أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل يصيب كل رجل بعيران هذان بعيران فاقبلهما عني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا قال ابن عباس فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية وأربعين عين تطرف

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث الرابع عشر حديث القسامة في الجاهلية بطوله ، وثبت عند أكثر الرواة عن الفربري هنا ترجمة " القسامة في الجاهلية " ، ولم يقع عند النسفي وهو أوجه ، لأن الجميع من ترجمة أيام الجاهلية ، ويظهر ذلك من الأحاديث التي أوردها تلو هذا الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا قطن ) بفتح القاف والمهملة ثم نون هو ابن كعب القطعي بضم القاف البصري ، ثقة عندهم ، وشيخه أبو يزيد المدني بصري أيضا ويقال له : المديني بزيادة تحتانية ، ولعل أصله كان من المدينة ، ولكن لم يرو عنه أحد من أهل المدينة ، وسئل عنه مالك فلم يعرفه ولا يعرف اسمه وقد وثقه ابن معين وغيره ، ولا له ولا للراوي عنه في البخاري إلا هذا الموضع .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إن أول قسامة ) بفتح القاف وتخفيف المهملة اليمين ، وهي في عرف الشرع حلف معين عند التهمة بالقتل على الإثبات أو النفي . وقيل : هي مأخوذة من قسمة الأيمان على الحالفين . وسيأتي بيان الاختلاف في حكمها في كتاب الديات إن شاء الله تعالى . وقوله : ( لفينا بني هاشم ) اللام للتأكيد وبني هاشم مجرور على البدل من الضمير المجرور ، ويحتمل أن يكون نصبا على التمييز ، أو على النداء بحذف الأداة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كان رجل من بني هاشم ) هو عمرو بن علقمة بن المطلب بن عبد مناف ، جزم بذلك الزبير بن بكار في هذه القصة فكأنه نسب هذه الرواية إلى بني هاشم مجازا لما كان بين بني هاشم وبني المطلب من المودة والمؤاخاة والمناصرة ، وسماه ابن الكلبي عامرا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى ) كذا في رواية الأصيلي وأبي ذر ، وكذا أخرجه الفاكهي من وجه آخر عن أبي معمر شيخ البخاري فيه . وفي رواية كريمة وغيرها " استأجر رجلا من قريش " وهو مقلوب ، والأول هو الصواب . والفخذ بكسر المعجمة وقد تسكن . وجزم الزبير بن بكار بأن المستأجر المذكور هو خداش - بمعجمتين ودال مهملة - ابن عبد الله بن أبي قيس العامري .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فمر به ) أي بالأجير ( رجل من بني هاشم ) لم أقف على اسمه . وقوله : ( عروة جوالقه ) بضم الجيم وفتح اللام الوعاء من جلود وثياب وغيرها ، فارسي معرب ، وأصله كواله : وجمعه جواليق وحكي جوالق بحذف التحتانية ، والعقال الحبل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأين عقاله ؟ قال فحذفه ) كذا في النسخ وفيه حذف يدل عليه سياق الكلام ، وقد بينته رواية الفاكهي " فقال : مر بي رجل من بني هاشم قد انقطع عروة جوالقه ، واستغاث بي فأعطيته ، فحذفه " أي رماه .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 193 ] قوله : ( كان فيها أجله ) أي أصاب مقتله . وقوله : " فمات " أي أشرف على الموت ، بدليل قوله : " فمر به رجل من أهل اليمن قبل أن يقضي [1] ولم أقف على اسم هذا المار أيضا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أتشهد الموسم ) أي موسم الحج .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فكتب ) بالمثناة ثم الموحدة ولغير أبي ذر والأصيلي بضم الكاف وسكون النون ثم المثناة والأول أوجه ، وفي رواية الزبير بن بكار " فكتب إلى أبي طالب يخبره بذلك ومات منها " وفي ذلك يقول أبو طالب :


                                                                                                                                                                                                        أفي فضل حبل لا أبا لك ضربه بمنسأة ، قد جاء حبل وأحبل



                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يا آل قريش ) بإثبات الهمزة وبحذفها على الاستغاثة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قتلني في عقال ) أي بسبب عقال .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ومات المستأجر ) بفتح الجيم أي بعد أن أوصى اليماني بما أوصاه به .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فوليت ) بكسر اللام ، وفي رواية ابن الكلبي " فقال : أصابه قدره ، فصدقوه ولم يظنوا به غير ذلك " وقوله : " وافى الموسم أي أتاه " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يا بني هاشم ) في رواية الكشميهني " يا آل بني هاشم " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من أبو طالب ) في رواية الكشميهني " أين أبو طالب " زاد ابن الكلبي " فأخبره بالقصة وخداش يطوف بالبيت لا يعلم بما كان ، فقام رجال من بني هاشم إلى خداش فضربوه وقالوا : قتلت صاحبنا ، فجحد " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( اختر منا إحدى ثلاث ) يحتمل أن تكون هذه الثلاث كانت معروفة بينهم ، ويحتمل أن تكون شيئا اخترعه أبو طالب . وقال ابن التين : لم ينقل أنهم تشاوروا في ذلك ولا تدافعوا فدل على أنهم كانوا يعرفون القسامة قبل ذلك . كذا قال ، وفيه نظر ; لقول ابن عباس راوي الحديث " أنها أول قسامة " ويمكن أن يكون مراد ابن عباس الوقوع وإن كانوا يعرفون الحكم قبل ذلك ، وحكى الزبير بن بكار أنهم تحاكموا في ذلك إلى الوليد بن المغيرة فقضى أن يحلف خمسون رجلا من بني عامر عند البيت ما قتله خداش ، وهذا يشعر بالأولية مطلقا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأتته امرأة من بني هاشم ) هي زينب بنت علقمة أخت المقتول ( كانت تحت رجل منهم ) هو عبد العزى بن أبي قيس العامري ، واسم ولدها منه حويطب بمهملتين مصغر ، وذكر ذلك الزبير . وقد عاش حويطب بعد هذا دهرا طويلا ، وله صحبة ، وسيأتي حديثه في كتاب الأحكام . ونسبتها إلى بني هاشم مجازية والتقدير كانت زوجا لرجل من بني هاشم . ويحتمل قولها فولدت له ولدا أي غير حويطب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أن تجيز ابني ) بالجيم والزاي ، أي تهبه ما يلزمه من اليمين . وقولها : ( ولا تصبر يمينه ) بالمهملة ثم الموحدة ، أصل الصبر الحبس والمنع ، ومعناه في الأيمان الإلزام ، تقول : صبرته أي ألزمته أن يحلف بأعظم الأيمان حتى لا يسعه أن لا يحلف .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 194 ] قوله : ( حيث تصبر الأيمان ) أي بين الركن والمقام ، قاله ابن التين . قال : ومن هنا استدل الشافعي على أنه لا يحلف بين الركن والمقام على أقل من عشرين دينارا نصاب الزكاة ، كذا قال ، ولا أدري كيف يستقيم هذا الاستدلال ، ولم يذكر أحد من أصحاب الشافعي أن الشافعي استدل لذلك بهذه القصة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأتاه رجل منهم ) لم أقف على اسمه ولا على اسم أحد من سائر الخمسين إلا من تقدم ، وزاد ابن الكلبي " ثم حلفوا عند الركن أن خداشا بريء من دم المقتول " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فوالذي نفسي بيده ) قال ابن التين : كأن الذي أخبر ابن عباس بذلك جماعة اطمأنت نفسه إلى صدقهم حتى وسعه أن يحلف على ذلك . قلت : يعني أنه كان حين القسامة لم يولد ، ويحتمل أن يكون الذي أخبره بذلك هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أمكن في دخول هذا الحديث في الصحيح .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فما حال الحول ) أي من يوم حلفوا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ومن الثمانية وأربعين ) في رواية أبي ذر " وفي الثمانية " وعند الأصيلي " والأربعين " قوله : " عين تطرف " بكسر الراء أي تتحرك . زاد ابن الكلبي " وصارت رباع الجميع لحويطب ، فبذلك كان أكثر من بمكة رباعا " . وروى الفاكهي من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه قال : " حلف ناس عند البيت قسامة على باطل ، ثم خرجوا فنزلوا تحت صخرة فانهدمت عليهم " ومن طريق طاوس قال : " كان أهل الجاهلية لا يصيبون في الحرم شيئا إلا عجلت لهم عقوبته " ومن طريق حويطب أن أمة في الجاهلية عاذت بالبيت ، فجاءتها سيدتها فجبذتها فشلت يدها " وروينا في " كتاب مجابي الدعوة لابن أبي الدنيا " في قصة طويلة في معنى سرعة الإجابة بالحرم للمظلوم فيمن ظلمه قال : " فقال عمر : كان يفعل بهم ذلك في الجاهلية ليتناهوا عن الظلم ؛ لأنهم كانوا لا يعرفون البعث ، فلما جاء الإسلام أخر القصاص إلى يوم القيامة " وروى الفاكهي من وجه آخر عن طاوس قال : " يوشك أن لا يصيب أحد في الحرم شيئا إلا عجلت له العقوبة " فكأنه أشار إلى أن ذلك يكون في آخر الزمان عند قبض العلم وتناسي أهل ذلك الزمان أمور الشريعة فيعود الأمر غريبا كما بدأ ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية