الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح . اللواقح جمع لاقح ، وأصل اللاقح التي قبلت اللقاح فحملت الجنين ، ومنه قول ذي الرمة :

                                                                                                                                                                                                                                      إذا قلت عاج أو تفتيت أبرقت بمثل الخوافي لاقحا أو تلقح

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل تلقح : تتلقح ، حذفت إحدى التاءين ، أي توهم أنها لاقح وليس كذلك ، ووصف الرياح بكونها لواقح ; لأنها حوامل تحمل المطر كما قال تعالى حتى إذا أقلت سحابا ثقالا [ 7 \ 57 ] [ ص: 267 ] أي حملت سحابا ثقالا ، فاللواقح من الإبل حوامل الأجنة ، واللواقح من الريح حوامل المطر ، فالجميع يأتي بخير ، ولذا كانت الناقة التي لا تلد يقال لها عقيم ، كما أن الريح التي لا خير فيها يقال لها عقيم كما قال تعالى : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم الآية [ 51 \ 41 ] وقال بعض العلماء : اللواقح بمعنى الملاقح ، أي التي تلقح غيرها من السحاب والشجر ، وعلى هذا ففيه وجهان : أحدهما : أن المراد النسبة ، فقوله : لواقح ، أي ذوات لقاح كما يقال : سائف ورامح ، أي ذو سيف ورمح ومن هذا قول الشاعر : وغررتني وزعمت أنك لابن في الحي تامر أي ذو لبن وتمر ، وعلى هذا فمعنى لواقح أي ذوات لقاح ، لأنها تلقح السحاب والشجر .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أن لواقح بمعنى ملاقح جمع ملقحة ، وملقح اسم فاعل ألقحت السحاب والشجر كما يلقح الفحل الأنثى ، وغاية ما في هذا القول إطلاق لواقح وإرادة ملاقح ، ونظيره قول ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد أو غيره :

                                                                                                                                                                                                                                          ليبك يزيد ضارع لخصومة
                                                                                                                                                                                                                                      ومختبط مما تطيح الطوائح



                                                                                                                                                                                                                                      فإن الرواية تطيح بضم التاء من أطاح الرباعي ، والمناسب لذلك المطيحات لا الطوائح ، ولكن الشاعر أطلق الطوائح وأراد المطيحات ، كما قيل هنا بإطلاق اللواقح وإرادة الملاقح أي الملقحات باسم الفاعل ، ومعنى إلقاح الرياح السحاب والشجر ، أن الله يجعلها لهما كما يجعل الذكر للأنثى ، فكما أن الأنثى تحمل بسبب ضراب الفحل ، فكذلك السحاب يمتلئ ماء بسبب مري الرياح له ، والشجر ينفتق عن أكمامه وأوراقه بسبب إلقاح الريح له . قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة وأرسلنا الرياح لواقح [ 15 \ 22 ] أي تلقح السحاب فتدر ماء ، وتلقح الشجر فتنفتح عن أوراقها وأكمامها ، وقال السيوطي في الدر المنثور : " وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله وأرسلنا الرياح لواقح قال : يرسل الله الريح فتحمل الماء فتلقح به السحاب فيدر كما تدر اللقحة ثم يمطر " . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : يرسل الله الريح ، فتحمل الماء من السحاب ، فتمري به السحاب ، فيدر كما تدر [ ص: 268 ] اللقحة . وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : وأرسلنا الرياح لواقح ، قال : تلقح الشجرة وتمري السحاب : وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي رجاء - رضي الله عنه - قال قلت للحسن - رضي الله عنه - : وأرسلنا الرياح لواقح قال : لواقح للشجر ، قلت : أو السحاب ، قال : وللسحاب تمر به حتى يمطر . وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : وأرسلنا الرياح لواقح قال : تلقح الماء في السحاب . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : وأرسلنا الرياح لواقح قال : الريح يبعثها الله على السحاب ، فتلقحه فيمتلئ ماء . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب ، وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه والديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " ريح الجنوب من الجنة " وهي الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه وفيها منافع للناس ، والشمال من النار تخرج فتمر بالجنة ، فيصيبها نفخة منها فبردها هذا من ذلك . وأخرج ابن أبي الدنيا عن قتادة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور ، والجنوب من الجنة ، وهي الريح اللواقح " .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا حاصل معنى كلام العلماء في الرياح اللواقح ، وقد قدمنا قول من قال : إن اللواقح هي حوامل المطر ، وأن ذلك القول يدل له قوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا [ 7 \ 57 ] أي حملتها ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها ، أن يكون للشيء أوصاف ، فيذكر بعضها في موضع ، فإنا نبين بقية تلك الأوصاف المذكورة في مواضع أخر ، ومثلنا لذلك بظل أهل الجنة فإنه تعالى وصفه في سورة النساء بأنه ظليل في قوله : وندخلهم ظلا ظليلا [ 4 \ 57 ] وقد وصفه بأوصاف أخر في مواضع أخر ، وقد بينا صفات ظل أهل الجنة المذكورة في غير ذلك الموضع كقوله : أكلها دائم وظلها [ 13 \ 35 ] وقوله : وظل ممدود [ 56 ] إلى غير ذلك من أوصافه ، وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى وصف الرياح في هذه الآية بكونها لواقح ، وقد بينا معنى ذلك آنفا ، ووصفها في مواضع أخر بأوصاف أخر ، من ذلك وصفه لها بأنها تبشر بالسحاب في قوله :ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات [ 30 \ 46 ] وقوله : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته على قراءة من قرأها بالباء ، ومن ذلك وصفه لها بإثارة السحاب كقوله : الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا الآية [ 25 \ 48 ] [ ص: 269 ] وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عبيد بن عمير قال " يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قما ، ثم يبعث المبشرة فتثير السحاب ، فيجعله كسفا ، ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه ، فيجعله ركاما ، ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر "

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر بن عمير قال : " الأرواح أربعة : ريح تقم ، وريح تثير تجعله كسفا ، وريح تجعله ركاما ، وريح تمطر " اه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية