الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .

كتاب الاستحقاق

وجل النظر في هذا الكتاب هو في أحكام الاستحقاق ، وتحصيل أصول هذا الكتاب : أن الشيء المستحق من يد إنسان بما تثبت به الأشياء في الشرع لمستحقها إذا صار إلى ذلك الإنسان الذي استحق من يده الشيء المستحق بشراء ، أنه لا يخلو من أن يستحق من ذلك الشيء أقله أو كله أو جله ، ثم إذا استحق منه كله أو جله فلا يخلو أن يكون قد تغير عند الذي هو بيده بزيادة أو نقصان أو يكون لم يتغير ، ثم لا يخلو أيضا أن يكون المستحق منه قد اشتراه بثمن أو مثمون .

فأما إن كان استحق منه أقله ، فإنه إنما يرجع عند مالك على الذي اشتراه منه بقيمة ما استحق من يده ، وليس له أن يرجع بالجميع .

وأما إن كان استحق كله أو جله ، فإن كان لم يتغير أخذه المستحق ورجع المستحق من يده على الذي اشتراه منه بثمن ما اشتراه منه إن كان اشتراه بثمن ، وإن كان اشتراه بالمثمون رجع بالمثمون بعينه إن كان لم يتغير ، فإن تغير تغيرا يوجب اختلاف قيمته رجع بقيمته يوم الشراء ، وإن كان المال المستحق قد بيع ; فإن للمستحق أن يمضي البيع ويأخذ الثمن أو يأخذه بعينه ، فهذا هو حكم المستحق والمستحق من يده ما لم يتغير الشيء المستحق .

فإن تغير الشيء المستحق فلا يخلو أن يتغير بزيادة أو نقصان .

فأما إن كان تغير بزيادة ، فلا يخلو أن يتغير بزيادة من قبل الذي استحق من يده الشيء ، أو بزيادة من ذات الشيء .

فأما الزيادة من ذات الشيء فيأخذها المستحق ، مثل أن تسمن الجارية أو يكبر الغلام .

وأما الزيادة من قبل المستحق منه ، فمثل أن يشتري الدار فبنى فيها فتستحق من يده ، فإنه مخير بين أن يدفع قيمة الزيادة ويأخذ ما استحقه وبين أن يدفع إليه المستحق من يده قيمة ما استحق أو يكونا شريكين ، هذا بقدر قيمة ما استحق من يده ، وهذا بقدر قيمة ما بنى أو غرس ، وهو قضاء عمر بن الخطاب .

وأما إن كانت الزيادة ولادة من قبل المستحق منه ، مثل أن يشتري أمة فيولدها ثم تستحق منه أو يزوجها على أنها حرة فتخرج أمة ، فإنهم اتفقوا على أن المستحق ليس له أن يأخذ أعيان الولد ، واختلفوا [ ص: 661 ] في أخذ قيمتهم . وأما الأم فقيل يأخذها بعينها ، وقيل يأخذ قيمتها . وأما إن كان الولد بنكاح فاستحقت بعبودية فلا خلاف أن لسيدها أن يأخذها ويرجع الزوج بالصداق على من غره ، وإذا ألزمناه قيمة الولد لم يرجع بذلك على من غره ; لأن الغرر لم يتعلق بالولد .

وأما غلة الشيء المستحق ، فإنه إذا كان ضامنا بشبهة ملك فلا خلاف أن الغلة للمستحق منه ( وأعني بالضمان : أنها تكون من خسارته إذا هلكت عنده ) ، وأما إذا كان غير ضامن ، مثل أن يكون وارثا فيطرأ عليه وارث آخر فيستحق بعض ما في يده ; فإنه يرد الغلة . وأما إن كان غير ضامن إلا أنه ادعى في ذلك ثمنا مثل العبد يستحق بحرية ، فإنه وإن هلك عنده يرجع بالثمن ففيه قولان : أنه لا يضمن إذا لم يجد على من يرجع ، ويضمن إذا وجد على من يرجع .

وأما من أي وقت تصح الغلة للمستحق ؟ فقيل يوم الحكم ، وقيل من يوم ثبوت الحق ، وقيل من يوم توقيفه .

وإذا قلنا إن الغلة تجب للمستحق في أحد هذه الأوقات الثلاثة فإذا كانت أصولا فيها ثمرة فأدرك هذا الوقت الثمر ولم يقطف بعده ، فقيل إنها للمستحق ما لم تقطف ، وقيل ما لم تيبس ، وقيل ما لم يطب ، ويرجع عليه بما سقى وعالج المستحق من يديه ، وهذا إن كان اشترى الأصول قبل الإبار . وأما إن كان اشتراها بعد الإبار فالثمرة للمستحق عند ابن القاسم إن جذت ويرجع بالسقي والعلاج ، وقال أشهب : هي للمستحق ما لم تجذ . والأرض إذا استحقت ، فالكراء إنما هو للمستحق إن وقع الاستحقاق في إبان زريعة الأرض . وأما إذا خرج الإبان فقد وجب كراء الأرض للمستحق منه .

وأما إن كان تغير بنقصان ، فإن كان من غير سبب المستحق من يديه فلا شيء على المستحق من يديه . وأما إن كان أخذ له ثمنا مثل أن يهدم الدار فيبيع نقضها ثم يستحقها من يده رجل آخر ، فإنه يرجع عليه بثمن ما باع من النقض .

قال القاضي : ولم أجد في هذا الباب خلافا يعتمد عليه فيما نقلته فيه من مذهب مالك وأصحابه ، وهي أصولهم في هذا الباب ، ولكن يجيء على أصول الغير أنه إذا كان المستحق مشترى بعرض ، وكان العرض قد ذهب أن يرجع المستحق من يده بعرض مثله لا بقيمته ، وهم الذين يرون في جميع المتلفات المثل ، وكذلك يجيء على أصول الغير أن يرجع على المشتري إذا استحق منه قليل أو كثير ; لأنه لم يدخل على الباقي ولا انعقد عليه بيع ولا وقع به تراض . كمل كتاب الاستحقاق بحمد الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية