الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال الشيخ : وأما التوحيد الثالث : فهو توحيد اختصه الحق لنفسه ، واستحقه لقدره ، وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من أهل صفوته ، وأخرسهم عن نعته ، وأعجزهم عن بثه .

[ ص: 473 ] فيقال : إما أن يريد بهذا التوحيد : توحيد العبد لربه ، وهو ما قام بالعبد من التوحيد ، لا يريد به توحيد الرب لنفسه ، وهو ما قام به من صفاته وكماله ، فإذا أراد به توحيد الرب لنفسه بنفسه ، وهو علمه وكلامه ، وخبره الذي يخبر به عن نفسه وصفاته ، كقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو وقوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وقوله هو الله الذي لا إله إلا هو ونحو ذلك ، فذلك هو صفة الرب القائمة به ، كما يقوم به سائر صفاته : من حياته ، وعلمه ، وقدرته ، وإرادته ، وسمعه وبصره ، وذلك لا يفارق ذات الرب ، ولا ينتقل إلى غيره ، بل صفات المخلوق لا تفارقه ، ولا تنتقل إلى غيره ، فكيف صفات الخالق جل وعلا ؟ ولكنه - سبحانه وتعالى - يدل على ذلك بآياته القولية والفعلية ، فيعلم عباده ما قام به من التوحيد لنفسه ، بما دلهم عليه من قوله وفعله ، فإذا شهد عبده له بما شهد به لنفسه ، قيل : هذه الشهادة هي شهادة الرب ، بمعنى : أنها مطابقة لها موافقة لها ، لا بمعنى أنها عينها ، وأن الشهادتين واحدة بالعين ، فما قام بقلب العبد إلا صفته وكلامه وخبره وإرادته ، وهو غير ما قام بذات الرب من صفته وكلامه ، وخبره ، وإن طابقه ووافقه ، وعلى هذا فقوله " اختصه الحق لنفسه " أي لا يوحده به غيره ، " واستحقه لقدره " أي استحقه بقدر كنهه الذي لا يبلغه غيره .

قوله : " وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته " ، أي أظهر منه شيئا يسيرا ، أسره إلى طائفة قليلة من الخلق ، وهم أهل صفوته .

قوله " أخرسهم عن نعته " يحتمل أن يريد به : أنه لا يقبل نعت المخلوقين كما لا يقبل لسان الأخرس الكلام ، وعلى هذا فيكون نعته غير ممكن ، ويحتمل أن يريد به : أنه حال بينهم وبين نعته ، لعجز السامع عن فهمه ، فيكون نعته ممكنا ، لكن الحق أسكتهم عنه ، غيرة عليه وصيانة له .

قوله : " وأعجزهم عن بثه " ، أي لم يقدرهم على الإخبار عنه .

فيقال : أفضل صفوة الرب تعالى : الأنبياء ، وأفضلهم : الرسل ، وأفضلهم : أولو العزم ، وأفضلهم : الخليلان عليهما الصلاة والسلام ، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين ، والذي ألاحه الله إلى أسرارهم من ذلك هو أكمل توحيد عرفه العباد ، ولا أكمل منه ، [ ص: 474 ] وليس وراءه إلا الشطح والدعاوى والوساوس ، وهم - صلوات الله وسلامه عليهم - قد تكلموا بالتوحيد ، ونعتوه وبينوه ، وأوضحوه وقرروه ، بحيث صار في حيز التجلي والظهور والبيان ، فعقلته القلوب ، وحصلته الأفئدة ، ونطقت به الألسنة ، وأوضحته الشواهد ، وقامت عليه البراهين ، ونادت عليه الدلائل ، ولا يمكن أحدا أن ينقل عن نبي من الأنبياء ، ولا وارث نبي داع إلى ما دعا إليه أنه يعلم توحيدا لا يمكنه النطق به ، وأن الله سبحانه أخرسه عن نطقه وأعجزه عن بثه ، بل كل ما علمه القلب أمكن اللسان التعبير عنه ، وإن اختلفت العبارة ظهورا وخفاء ، وبين ذلك ، وقد لا يفهمه إلا بعض الناس ، فالناس لم تتفق أفهامهم لما جاءت به الرسل .

وكيف يقال : إن أعرف الخلق ، وأفصحهم وأنصحهم عاجز أن يبين ما عرفه الله من توحيده ، وأنه عاجز عن بثه ؟ فما هذا التوحيد الذي عجزت الأنبياء والرسل عن بثه ، ومنعوا من النطق به ، وعرفه غيرهم ؟ هذا كله إن أريد به كلهم التوحيد القائم بذات الحق تعالى لنفسه .

فأما إن أريد به التوحيد ، الذي هو صفة العبد وفعله فلم يطابق قوله " اختصه الرب لنفسه ، واستحقه لقدره " ، ولا يطابق القوافي الثلاثة التي أجاب بها الشيخ عنه ، وأن توحيده نفسه : هو التوحيد لا غيره .

وأيضا فصفة العبد وفعله لا يعجز عن بثها ، ولا يخرس عن النطق بها ، وكل ما قام بالعبد فإنه يمكنه التعبير عنه وكشفه وبيانه .

فإن قيل : المراد بذلك : أن الرب تعالى هو الموحد لنفسه في قلوب صفوته ، لا أنهم هم الموحدون له ، ولهذا قال الشيخ : والذي يشار إليه على ألسن المشيرين : أنه إسقاط الحدث ، وإثبات القدم ، وعليه أنشد هذه القوافي الثلاثة وهي :


ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد     توحيد من ينطق عن نعته
عارية أبطلها الواحد     توحيده إياه توحيده
ونعت من ينعته لاحد

قوله : " ما وحد الواحد من واحد " ، يعني : ما وحد الله عز وجل أحد سواه ، وكل [ ص: 475 ] من وحد الله فهو جاحد لحقيقة توحيده ، فإن توحيده يتضمن شهود ذات الواحد وانفراده ، وتلك اثنينية ظاهرة ، بخلاف توحيده لنفسه ، فإنه يكون هو الموحد والموحد ، والتوحيد صفته وكلامه القائم به ، فما ثم غير ، فلا اثنينية ولا تعدد .

وأيضا فمن وحده من الخلق فلابد أن يصفه بصفة ، وذلك يتضمن جحد حقه الذي هو عدم انحصاره تحت الأوصاف ، فمن وصفه فقد جحد إطلاقه عن قيود الصفات .

وقوله : " توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد " .

يعني توحيد الناطقين عنه ، " عارية أبطلها الواحد " ، يعني : عارية مردودة ، كما تسترد العواري ، إشارة إلى أن توحيدهم عارية لا ملك لهم ، بل الحق أعارهم إياه ، كما يعير المعير متاعه لغيره ينتفع به ، ويكون ملكا للمعير لا للمستعير .

وقوله " أبطلها الواحد " أي الواحد المطلق من كل الوجوه ، وحدته تبطل هذه العارية ، وتردها إلى مالكها الحق ، فإن الوحدة المطلقة من جميع الوجوه تنافي ملك الغير لشيء من الأشياء ، بل المالك لتلك العارية هو الواحد فقط ، فلذلك أبطلت الوحدة هذه العارية .

وقوله : " توحيده إياه توحيده " أي توحيده الحقيقي : هو توحيده لنفسه بنفسه من غير أثر للسوى بوجه ، بل لا سوى هناك .

وقوله : " ونعت من ينعته لاحد " ، أي نعت الناعت له إلحاد ، وهو عدول عما يستحقه من كمال التوحيد ، فإنه أسند إلى نزاهة الحق ما لا يليق به إسناده ، فإن عين الأولية تأبى نطق الحدث ، ومحض التوحيد يأبى أن يكون للسوى أثر البتة .

فيقال - وبالله التوفيق - : في هذا الكلام من الإجمال والحق والإلحاد ما لا يخفى .

فأما قوله : " إن الرب تعالى هو الموحد لنفسه في قلوب صفوته ، لا أنهم هم الموحدون له ، إن أريد به ظاهره ، وأن الموحد لله هو الله لا غيره ، وأن الله سبحانه حل في صفوته ، حتى وحد نفسه ، فيكون هو الموحد لنفسه في قلوب أوليائه ، لاتحاده بهم وحلوله فيهم : فهذا قول النصارى بعينه ، بل هو شر منه ؛ لأنهم خصوه بالمسيح ، وهؤلاء عموا به كل موحد ، بل عند الاتحادية : الموحد والموحد واحد ، وما ثم تعدد في الحقيقة .

[ ص: 476 ] وإن أريد به : هو الذي وفقهم لتوحيده ، وألهمهم إياه ، وجعلهم يوحدونه ، فهو الموحد لنفسه بما عرفهم به من توحيده ، وبما ألقاه في قلوبهم وأجراه على ألسنتهم : فهذا المعنى صحيح ، ولكن لا يصح نفي أفعالهم عنهم ، فلا يقال : إن الله هو الموحد لنفسه ، لا أن عبده يوحده ، هذا باطل شرعا وعقلا وحسا : بل الحق أن الله سبحانه وحد نفسه بتوحيد قام به ، ووحده عبيده بتوحيد قام بهم بإذنه ومشيئته وتوفيقه ، فهو الموحد لنفسه بنفسه ، وهم الموحدون له بتوفيقه ومعونته وإذنه ، فالذي قام بهم ليس هو الذي قام بالرب تعالى ولا وصفه ، بل العلم به ومحبته وتوحيده ، ويسمى ذلك الشاهد والمثل الأعلى ، فهي الشواهد والأمثلة العلية ، التي قال الله تعالى فيها وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم وقال تعالى للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وكثيرا ما يقول الرجل لغيره : أنت في قلبي وفي فؤادي ، والمراد : هذا ، لا ذاته ونفسه .

وقوله " والذي يشار إليه على ألسنة المشيرين : أنه إسقاط الحدث ، وإثبات القدم " فإن أريد : إسقاطه من الوجود ؛ فمكابرة للعيان ، وإن أريد : إسقاطه من الشهود ؛ فليس ذلك بمأمور به ، ولا هو كمال ، فضلا عن أن يكون هو توحيد خاصة الخاصة ، فما هذا الإسقاط للحدث الذي هو نهاية التوحيد ، وأعلى مقاماته ؟ وهل الكمال إلا أن يشهد الأشياء على ما هي عليه ، كما هي في شهادة الحق سبحانه ؟

فإسقاط الحدث كلام لا حاصل له ، إذ لا كمال فيه ، بل إنما ينفع إسقاط الحدث عند درجة القصد والتأله ، فإسقاط الحدث - كما تقدم - ثلاث مراتب : إسقاطه عن الوجود ، وهو مكابرة ، وإسقاطه عن الشهود ، وهو نقص ، وإسقاطه عن القصود ، وهو كمال ، ولهذا قال الملحد : إسقاط الحدث وإثبات القدم الصحيح ، ونظر الوارد على هذه الحضرة لضعفه ، فإذا تمكن عرف أن الحدث لم يزل ساقطا ، فلا معنى لقوله " إسقاط الحدث " ولا معنى لقوله " إثبات القدم " فإن القديم لم يزل ثابتا ، فهذا الكلام لا يرضى به الموحد ، ولا الملحد ، ولا أشار إليه القرآن الذي تضمن أعلى مراتب التوحيد ، بل القرآن - من أوله إلى آخره - يدل على خلافه .

قال الملحد : وأيضا فالتوحيد يستغرق القول في الطمس ، فإن كان هناك نطق فليس هناك شهود ، كما قال في المواقف : أنا أقرب إلى اللسان من نطقه إذا نطق ، [ ص: 477 ] فمن شهدني لم يذكر ، ومن ذكرني لم يشهد .

قال : فقوله " من ذكرني لم يشهد " هو نفس قول صاحب المنازل : على أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة لا يصح ذلك التوحيد إلا بإسقاطها .

وحقيقة ذلك : أنه لا يصح التوحيد إلا بإسقاط التوحيد ؛ لأن ذلك الرمز والإشارة والخبر هو عن نفس التوحيد ، فهو توحيد نطقي خبري مطابق للتوحيد المعلوم المخبر عنه ، فإذا لم يصح التوحيد إلا بإسقاط ذلك كانت حقيقة الأمر أنه لا يصح التوحيد إلا بإسقاط التوحيد .

ثم قال : هذا قطب الإشارة إليه على ألسن علماء هذا الطريق ، وإن زخرفوا له نعوتا ، وفصلوه فصولا ، يعني : أن قولهم التوحيد هو إسقاط الحدث وإثبات القدم هو قطب مدارات الإشارات إلى التوحيد عند هذه الطائفة ، ومع هذا فلا يصح التوحيد إلا بإسقاط ما قالوه ، ولذلك قال : فإن ذلك التوحيد تزيده العبارة خفاء ، والصفة نفورا ، والبسط صعوبة .

فإنه إذا لم يصح إلا بإسقاط الإشارة والصفة والبسط : كانت العبارة عنه لا تزيده إلا خفاء ، ولا الصفة إلا نفارا ، أي هروبا وذهابا ، والبسط والإيضاح لا يزيده إلا صعوبة ؛ لكثرة الإشارات والعبارات .

قوله : " وإلى هذا التوحيد : شخص أهل الرياضة ، وأرباب الأحوال - أي تطلعت قلوبهم - وإليه قصد أهل التعظيم ، وإياه عنى المتكلمون في عين الجمع ، وعليه تصطلم الإشارات ، ثم لم ينطق عنه لسان ، ولم تشر إليه عبارة .

فيقال : يالله العجب ! ما هذا السر الذي ما تكلم الله به ، ولا أشار إليه رسوله ، ولا نالته إشارة ، ولا قامت به عبارة ، ولا أشار إليه مكون ، ولا تعاطاه حين ، ولا أقله سبب ؟ ؟ ! فهذه العقول حاضرة ، وهذه المعارف ، وهذا كلام الله ورسوله ، بل سائر كتب الله ، وكلام سادات العارفين من الأمة ، فما هذا الحق المحال به ؟ وعلى من وقعت هذه الحوالة ؟ فإنكم أحلتم بما لا ينطق عنه لسان ولم تشر إليه عبارة ، ولا [ ص: 478 ] تعاطاه حين ، ولا أقله سبب ، فعلى من أحلتم بهذا الحق المجهول الذي لا سبيل إلى العلم به ، ولا التعبير عنه ، ولا الإشارة إليه ؟ ! ! وأين قوله : " ما وحد الواحد من واحد " من قوله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ؟ فأخبر سبحانه أن الملائكة كلهم يوحدونه ، وأن أولي العلم يوحدونه ، وكذلك إخباره عن أنبيائه ورسله وأتباعهم أنهم وحدوه ، ولم يشركوا به شيئا ، كما أخبر عن نوح ومن آمن معه ، وعن جميع الرسل ومن تبعهم ، بل أخبر سبحانه عن السماوات السبع والأرض وما فيهن أنها تسبح بحمده توحيدا ومعرفة .

فهل يصح أن يقال : ما وحده أحد من الرسل والأنبياء والمؤمنين ؟ ولا سبح بحمده سماء ولا أرض ولا شيء ؟ وأبطل الباطل أن يقال : كل من وحد الله من الأولين والآخرين جاحد له ولتوحيده ، لا موحد له على الحقيقة ؟ وأن نعت جميع الرسل والأنبياء وأتباعهم له إلحاد ، وكل من نعته من الأولين والآخرين فهو لاحد ، فلا معنى صحيح ، ولا لفظ مليح ، بل المعنى أبطل من اللفظ ، واللفظ أقبح من المعنى !

ثم يقال : فهذا الذي ذكرته - في هذه الدرجة - هل هو توحيد ، ووصف للتوحيد ، أم ليس بتوحيد ؟ فإن لم يكن توحيدا فهو باطل ، وإن كان توحيدا فقد وحدت الواحد .

وأيضا فإذا كان توحيده لنفسه هو التوحيد وما عداه فليس بتوحيد فمعلوم أن توحيده لنفسه هو الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه وأخبر به عن نفسه في القرآن من أوله إلى آخره وهذا عندك هو توحيد العامة ، فأين هذا التوحيد الذي وحد به نفسه ولم ينطق به لسان ولم تعبر عنه عبارة ولم يقله سبب ؟

فإن قلت : هو التوحيد القائم به فذلك هو وصفه وكلامه وعلمه بنفسه ، وليس ذلك من فعل العبد ولا صفته حتى يكون هو الدرجة الثالثة من توحيد العبد لربه كما أن سائر صفاته لا تدخل في درجات السلوك ، فإن تلك الدرجات هي منازل العبودية .

وأيضا فإن هذا الكلام الذي اشتملت عليه هذه الأبيات لا يستقيم على مذهب الملحدين ولا على مذهب الموحدين .

أما الموحدون فهم يقولون : إن الرسل والأنبياء والملائكة والمؤمنين يوحدون الله حق توحيده الذي يقدرون عليه ، وأما الملحدون فيقولون : ما ثم غير في [ ص: 479 ] الحقيقة ، فالله عندهم هو الوجود المطلق الساري في الموجودات ، فهو الموحد والموحد ، وكل ما يقال فيه فهو عندهم حق وتوحيد كما قال عارف القوم ابن عربي :


سر حيث شئت فإن الله ثم وقل     ما شئت فيه فإن الواسع الله

وقال أيضا :


عقد الخلائق في الإله عقائدا     وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

ومذهب القوم أن عباد الأوثان و عباد الصلبان وعباد النيران وعباد الكواكب كلهم موحدون ، فإنه ما عبد غير الله في كل معبود عندهم ، ومن خر للأحجار في البيد ومن عبد النار والصليب فهو موحد عابد لله ، والشرك عندهم إثبات وجود قديم وحادث وخالق ومخلوق ورب وعبد ، ولهذا قال بعض عارفيهم ، وقد قيل له : القرآن كله يبطل قولكم ، فقال : القرآن كله شرك والتوحيد هو ما نقوله .

وإن كانت هذه القوافي الثلاثة أولا مذهب هؤلاء ونحلتهم ، ولهذا تلقاها بالقبول عارفوهم وبالغوا في استحسانها ، وقالوا : هي ترجمة مذهب أهل التحقيق ، وكل من [ ص: 480 ] وحد الله فهو جاحد لإطلاقه فإنه يصفه فيحصره تحت الأوصاف ، وحصره تحتها جحد لإطلاقه عن قيود الصفات والنعوت ، ولهذا كان توحيد الواصف الناعت له : عارية استعارها حتى قام لها من ذلك وصف وموصوف وموحد وموحد ، والوحدة المطلقة تبطل هذه العارية وترد المستعار إلى الموجود المطلق الذي لا يتقيد بوصف ولا يتخصص بنعت .

ثم كشف الغطاء عن ذلك فقال : توحيده إياه توحيده ، أي هو الموحد لنفسه بنفسه ، لا أن غيره يوحده إذ ليس ثم غير .

وزاد إيضاح ذلك بقوله : " ونعت من ينعته لاحد " ، والإلحاد : هو الميل عن الصواب ، والنعت تقييد وتخصيص لمن لا يتقيد ولا يتخصص ، فهو إلحاد .

وأحسن ما يحمل عليه كلامه : أن الفناء في شهوده الأزلية والحكم يمحو شهود العبد لنفسه وصفاته ، فضلا عن شهود غيره ، فلا يشهد موجدا فاعلا على الحقيقة إلا الله وحده ، وفي هذا الشهود تفنى الرسوم كلها ، فلا يبقى هذا الشهود والفناء رسما البتة ، فيمحو هذا الشهود من القلب كل ما سوى الحق ، لا أنه يمحقه من الوجود ، وحينئذ فيشهد أن التوحيد الحقيقي - غير المستعار - هو توحيد الرب تعالى لنفسه ، وتوحيد غيره له عارية محضة ، أعاره إياها مالك الأمر كله ، والعواري مردودة إلى من ترد إليه الأمور كلها ، وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون فالواحد القهار - سبحانه - أبطل تلك العارية : أن تكون ملكا للمعار ، كما يبين المعير للمستعير إذا استرد العين المعارة - وقد ظن المستعير أن المعار ملكه - : أن الأمر ليس كذلك ، وأنه عارية محضة في يده ، والمعير - إن أبطل ظن المستعير من العارية - لم يبطل أصل العارية ، ولهذا صرح بإثباتها في أول البيت ، وإنما ضاق به الوزن عن تمام المعنى وإيضاحه ، وهذا المعنى حق ، وهو أولى بهذا الإمام العظيم القدر مما يظنه به طائفة الاتحادية والحلولية وإن كانت كلماته المجملة شبهة لهم ، فسنته المفصلة مبطلة لظنهم .

ولكلامه محمل آخر أيضا ، وهو : أنه ما وحد الله حق توحيده الذي ينبغي له ويستحقه لذاته سواه ، كما قال أعظم الناس توحيدا - صلى الله عليه وسلم - لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك وفي مثل هذا يصلح النفي العام ، كما يقال : ما عرف الله إلا [ ص: 481 ] الله ، ولا أثنى عليه سواه ، والكلمة الواحدة يقولها اثنان ، يريد بها أحدهما أعظم الباطل ، ويريد بها الآخر محض الحق ، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه ، وما يدعو إليه ويناظر عليه .

وقد كان شيخ الإسلام - قدس الله روحه - راسخا في إثبات الصفات ، ونفي التعطيل ، ومعاداة أهله ، وله في ذلك كتب مثل : كتاب ذم الكلام وغير ذلك مما يخالف طريقة المعطلة والحلولية والاتحادية ، ثم صرح بهذا المعنى الذي ذكرناه بقوله " توحيده إياه توحيده " أي توحيده لنفسه : هو التوحيد الكامل التام ، الذي لا سبيل للعبارة والإشارة إليه ، وفوق ما تعرفه العقول وتصفه الألسن ، وهذا حق ، لكن جفت عبارته بعد بقوله : " ونعت من ينعته لاحد " ومحملها ، كما عرفت : أن نعت الخلق له دون ما هو عليه سبحانه ، وما هو عليه من الأوصاف والنعوت أجل وأعظم من أن يحيط به العلم المخلوق ، أو تنطق به الألسنة ، والإلحاد الميل ، وهو لم يرد أن نعت الناعتين له إلحاد وكفر ، فإنه هو قد نعته في هذا الكتاب وفي كتبه ، ولم يكن ملحدا بذلك ، فنعت المخلوق له مائل عن نعته لنفسه .

على أنه لو أراد الإلحاد ، الذي هو باطل وضلال لكان له وجه صحيح ، وهو أن نعت المخلوقين له من عند أنفسهم إلحاد ، والتوحيد الحق هو ما نعت الله به نفسه على ألسنة رسله ، فهم لم ينعتوه من تلقاء أنفسهم ، وإنما نعتوه بما أذن لهم في نعته به ، وقد صرح سبحانه بهذا المعنى في قوله : سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين فنزه نفسه عما يصفه به العباد إلا المرسلين ، فإنهم لم يصفوه من عند أنفسهم ، وكذلك قوله تعالى : سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .

فنختم الكتاب بهذه الآية حامدين لله مثنين عليه بما هو أهله ، وبما أثنى به على نفسه .

والحمد لله رب العالمين حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا .

ونسأله أن يوزعنا شكر نعمته ، وأن يوفقنا لأداء حقه ، وأن يعيننا على ذكره وشكره [ ص: 482 ] وحسن عبادته وأن يجعل ما قصدنا له في هذا الكتاب وفي غيره - خالصا لوجهه الكريم ونصيحة لعباده .

فيا أيها القارئ له لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه ، لك ثمرته وعليه تبعته ، فما وجدت فيه من صواب وحق فاقبله ولا تلتفت إلى قائله ، بل انظر إلى ما قال لا إلى من قال ، وقد ذم الله تعالى من يرد الحق إذا جاء به من يبغضه ، ويقبله إذا قاله من يحبه ، فهذا خلق الأمة الغضبية ، قال بعض الصحابة : اقبل الحق ممن قاله وإن كان بغيضا ، ورد الباطل على من قاله وإن كان حبيبا ، وما وجدت فيه من خطأ فإن قائله لم يأل جهد الإصابة ، ويأبى الله إلا أن يتفرد بالكمال كما قيل :


والنقص في أصل الطبيعة كامن     فبنو الطبيعة نقصهم لا يجحد

وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوما جهولا ، ولكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته .

وعلى المتكلم في هذا الباب وغيره أن يكون مصدر كلامه عن العلم بالحق ، وغايته النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولإخوانه المسلمين ، وإن جعل الحق تبعا للهوى فسد القلب والعمل والحال والطريق ، قال الله تعالى : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به فالعلم والعدل أصل كل خير ، والظلم والجهل أصل كل شر ، والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وأمره أن يعدل بين الطوائف ولا يتبع هوى أحد منهم ، فقال تعالى : فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير [ ص: 483 ] والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم المرسلين محمد ، وعلى آله أجمعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية