الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                            كتاب القتل

                                                                                                                                            باب تحريم القتل ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - قال الله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم الآية ، وقال تعالى : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وقال - عليه السلام - : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس .

                                                                                                                                            قال الماوردي : الأصل في ابتداء القتل وتحريمه ما أنزل الله جل اسمه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من قصة ابني آدم - عليه السلام - هابيل ، وقابيل ، حتى بلغ الأمة وأنذرها فقال : واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق [ المائدة : 27 ] يعني بالصدق ، ويريد بابني آدم قابيل القاتل ، وهابيل المقتول إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر [ المائدة : 27 ] وسبب قربانهما أن آدم أقر أن يزوج كل واحد من ولده بتوأمة أخيه ، فلما هم هابيل أن يتزوج بتوأمة قابيل منعه منها ، وقال : أنا أحق بها منك .

                                                                                                                                            وفي سبب هذا القول منه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : لأن قابيل وتوأمته كانا من ولادة الجنة : وهابيل وتوأمته كانا من ولادة الأرض .

                                                                                                                                            والثاني : لأن توأمة قابيل كانت أحسن من توأمة هابيل فاختصما إلى آدم فأمرهما أن يقربا قربانا ، وكان هابيل راعيا فقرب هابيل سمينة من خيار ماله ، وكان قابيل حراثا ، فقرب حزمة زرع ، فنزلت نار من السماء فرفعت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، وكان ذلك علامة القبول فازداد حسد قابيل لهابيل ، فقال : لأقتلنك قال : إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين [ المائدة : 27 ، 28 ] فلم يمنع عن نفسه : لأنه لم يؤذن له في المنع منها وهو مأذون فيه الآن ، وفي وجوبه للفقهاء قولان . فطوعت له نفسه قتل أخيه [ المائدة : 30 ] فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : شجعت قاله مجاهد .

                                                                                                                                            والثاني : زينت قاله قتادة .

                                                                                                                                            فقتله [ المائدة : 30 ] قيل : بحجر شرخ به رأسه فأصبح من الخاسرين [ ص: 4 ] [ المائدة : 30 ] لأنه خسر أخاه ودينه فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه [ المائدة : 31 ] لأنه ترك أخاه على وجه الأرض ولم يدفنه ؟ لأنه لم ير قبله مقتولا ولا ميتا ، وفي بحث الغراب قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : بحث الأرض على ما يدفنه فيها لقوته فتنبه بذلك على دفن أخيه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه بحث على غراب ميت حتى دفنه قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي [ المائدة : 31 ] فدفنه حينئذ وواراه فأصبح من النادمين ، فيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : من النادمين على قتل أخيه .

                                                                                                                                            والثاني : من النادمين على أن ترك مواراة سوأة أخيه ، ثم قال تعالى بعد ما أنهاه من حال ابني آدم من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا [ المائدة : 32 ] أن خلصها من قتل وهلكة وسماه إحياء لما فيه من بقاء الحياة ، وإن كان الله تعالى هو المحيي ، وفي تسميته بقتل الناس جميعا وإحياء الناس جميعا تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : فكأنما قتل جميع الناس عند المقتول ، وكأنما أحيا الناس عند المستنقذ وهذا قول ابن مسعود .

                                                                                                                                            والثاني : أن على جميع الناس دم القاتل كما لو قتلهم جميعا ، وعليهم شكر المحيي كما لو أحياهم جميعا ، وهذا أصل في تحريم القتل .

                                                                                                                                            وقد روى معمر عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن ابني آدم ضربا مثلا لهذه الأمة فخذوا من خيرهما ودعوا شرهما .

                                                                                                                                            وقال : ومن يقتل مؤمنا متعمدا [ النساء : 92 ] الآية وهذا أغلظ وعيد يجب في أغلظ تحريم حتى قال ابن عباس : لأجل ما تضمنته هذه الآية من الوعيد : إن توبة القاتل غير مقبولة ، وتعلقا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما نازلت ربي في شيء كما نازلته في توبة قاتل العمد فأبى علي وذهب من سواه إلى قبول توبته لقول الله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق [ الفرقان : 68 ] إلى قوله : إلا من تاب فاستثناه من الوعيد ، فدل على قبول توبته .

                                                                                                                                            فإن قيل : هذه الآية نزلت قبل الآية الأولى بستة أشهر فلم يجز أن تنسخ ما بعدها .

                                                                                                                                            [ ص: 5 ] قيل : ليس فيها نسخ ، وإنما فيها إثبات شرط ، والشرط معمول عليه تقدم أو تأخر ، فأما الخبر المحمول على المبالغة في الزجر لئلا يسارع الناس على القتل تعويلا على التوبة منه ، وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : باب التوبة مفتوح ما يقتضي حمله على هذا مع قول الله تعالى : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات [ الشورى : 25 ] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الله تعالى لم ينزع التوبة عن أمتي إلا عند الحشرجة يعني وقت المعاينة .

                                                                                                                                            وأما تحريم القتل بالسنة فروى أبو أمامة بن سهل عن عثمان ، وروى مسروق عن ابن مسعود ، وروى عكرمة عن ابن عباس ، وروى عبيد بن عمير عن عائشة ، كلهم يتفقون مع اختلاف الألفاظ على معنى واحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس .

                                                                                                                                            وروى أبو سعيد الخدري وأبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقتيل فقال : من لهذا ؟ فلم يذكر له أحد فغضب ، ثم قال : والذي نفسي بيده لو تمالأ عليه أهل السماء والأرض لأكبهم الله في النار .

                                                                                                                                            وروى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : زوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن .

                                                                                                                                            وروى ابن مسعود قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الكبائر أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك .

                                                                                                                                            وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله .

                                                                                                                                            [ ص: 6 ] وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حجة الوداع : ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا اللهم اشهد

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية