الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        16 - الحديث السادس : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال { مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين ، فقال : إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير أما أحدهما : فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر : فكان يمشي بالنميمة فأخذ جريدة رطبة ، فشقها نصفين ، فغرز في كل قبر واحدة فقالوا : يا رسول الله ، لم فعلت هذا ؟ قال : لعله يخفف عنهما ما لم [ ص: 107 ] ييبسا }

                                        التالي السابق


                                        " عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو العباس القرشي الهاشمي المكي أحد أكابر الصحابة في العلم سمي بالحبر والبحر ، لسعة علمه مات سنة ثمان وستين ، ويقال : كان سنه حينئذ : اثنتين وسبعين سنة وبعضهم يروي سنة إحدى - أو اثنتين - وسبعين سنة ، أعني في مبلغ سنه وكان موته بالطائف ثم الكلام عليه من وجوه :

                                        أحدها : تصريحه بإثبات عذاب القبر على ما هو مذهب أهل السنة واشتهرت به الأخبار وفي إضافة عذاب القبر إلى البول خصوصية تخصه دون سائر المعاصي مع أن العذاب بسبب غيره أيضا ، إن أراد الله عز وجل ذلك في حق بعض عباده وعلى هذا جاء الحديث { تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه } وكذا جاء أيضا : أن بعض من ذكر عنه أنه ضمه القبر ، أو ضغطه فسئل أهله ؟ فذكروا أنه كان منه تقصير في الطهور .

                                        الثاني : قوله " وما يعذبان في كبير " يحتمل - من حيث اللفظ - وجهين والذي يجب أن يحمل عليه منهما : أنهما لا يعذبان في كبير إزالته ، أو دفعه ، أو الاحتراز عنه أي إنه سهل يسير على من يريد التوقي منه ، ولا يريد بذلك : أنه صغير من الذنوب ، غير كبير منها ; لأنه قد ورد في الصحيح من الحديث " وإنه لكبير " فيحمل قوله " وإنه لكبير " على كبر الذنب .

                                        وقوله " وما يعذبان في كبير " على سهولة الدفع والاحتراز الثالث : قوله " أما أحدهما : فكان لا يستتر من بوله " هذه اللفظة - أعني " يستتر " - قد اختلفت فيها الرواية على وجوه وهذه اللفظة تحتمل وجهين :

                                        أحدهما : الحمل على حقيقتها من الاستتار عن الأعين ، ويكون العذاب على كشف العورة .

                                        والثاني : وهو الأقرب - : أن يحمل على المجاز ويكون المراد بالاستتار : [ ص: 108 ] التنزه عن البول والتوقي منه ، إما بعدم ملابسته ، أو بالاحتراز عن مفسدة تتعلق به ، كانتقاض الطهارة ، وعبر عن التوقي بالاستتار مجازا ، ووجه العلاقة بينهما : أن المستتر عن الشيء فيه بعد عنه واحتجاب ، وذلك شبيه بالبعد عن ملابسة البول ، وإنما رجحنا المجاز - وإن كان الأصل الحقيقة لوجهين :

                                        أحدهما : أنه لو كان المراد : أن العذاب على مجرد كشف العورة : كان ذلك سببا مستقلا أجنبيا عن البول ، فإنه حيث حصل الكشف للعورة حصل العذاب المرتب عليه ، وإن لم يكن ثمة بول فيبقى تأثير البول بخصوصه مطرح الاعتبار والحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية ، فالحمل على ما يقتضيه الحديث المصرح بهذه الخصوصية أولى وأيضا فإن لفظة " من " لما أضيفت إلى البول - وهي غالبا لابتداء الغاية حقيقة ، أو ما يرجع إلى معنى ابتداء الغاية مجازا - تقتضي نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول ، بمعنى أن ابتداء سبب عذابه من البول ، وإذا حملناه على كشف العورة زال هذا المعنى .

                                        الوجه الثاني : أن بعض الروايات في هذه اللفظة يشعر بأن المراد : التنزه من البول وهي رواية وكيع " لا يتوقى " وفي رواية بعضهم " لا يستنزه " فتحمل هذه اللفظة على تلك ، ليتفق معنى الروايتين .



                                        الرابع : في الحديث دليل على عظم أمر النميمة ، وأنها سبب العذاب ، وهو محمول على النميمة المحرمة فإن النميمة إذا اقتضى تركها مفسدة تتعلق بالغير ، أو فعلها مصلحة يستضر الغير بتركها : لم تكن ممنوعة ، كما نقول في الغيبة : إذا كانت للنصيحة ، أو لدفع المفسدة : لم تمنع ، ولو أن شخصا اطلع من آخر على قول يقتضي إيقاع ضرر بإنسان ، فإذا نقل إليه ذلك القول احترز عن ذلك الضرر لوجب ذكره له .



                                        الخامس : قيل في أمر " الجريدة " التي شقها اثنتين ، فوضعها على القبرين ، وقوله صلى الله عليه وسلم " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " إشارة إلى أن النبات يسبح ما دام رطبا فإذا حصل التسبيح بحضرة الميت حصلت له بركته ، فلهذا اختص بحالة الرطوبة .



                                        السادس : أخذ بعض العلماء من هذا : أن الميت ينتفع بقراءة القرآن على [ ص: 109 ] قبره ، من حيث إن المعنى الذي ذكرناه في التخفيف عن صاحبي القبرين هو تسبيح النبات ما دام رطبا فقراءة القرآن من الإنسان أولى بذلك والله أعلم بالصواب .




                                        الخدمات العلمية