الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 412 ] النوع الثالث الدوران : وهو وجود الحكم بوجود الوصف ، وعدمه بعدمه وخالف قوم .

                لنا : يوجب ظن العلية فيتبع

                قالوا : الوجود للوجود طرد محض غير مؤثر ، والعكس لا يعتبر هنا ، ثم المدار قد يكون لازما للعلة ، أو جزءا فتعيينه للعلية تحكم .

                قلنا : عدم تأثيرهما منفردين لا يمنع تأثيرهما مجتمعين ، ثم العكس وإن لم يعتبر ، ولكن ما أفاده من الظن متبع ، واحتمال ما ذكرتم لا ينفي إفادة الظن ، وهو مناط التمسك ، وصحح القاضي ، وبعض الشافعية التمسك بشهادة الأصول المفيدة للطرد والعكس ، نحو : من صح طلاقه ، صح ظهاره ، ومنع ذلك آخرون ، والله تعالى أعلم .

                التالي السابق


                " النوع الثالث " : يعني من أنواع إثبات العلة بالاستنباط; إثباتها بالدوران .

                وهو في اللغة : مصدر دار يدور دورا ودورانا ، إذا تحرك حركة دورية ، وهي التي تنتهي إلى مبدئها ، كحركة الفلك والدولاب والرحا ونحوها .

                قوله : " وهو " يعني الدوران في اصطلاح الأصوليين : " وجود الحكم بوجود الوصف " المدعى علة " وعدمه بعدمه " .

                قال القرافي : هو عبارة عن اقتران ثبوت الحكم مع ثبوت الوصف وعدمه مع عدمه ، قال : وفيه خلاف ، والأكثرون من أصحابنا وغيرهم يقولون بكونه حجة .

                قلت : وبعضهم يعبر عن الدوران بالطرد والعكس ، منهم الآمدي قال : [ ص: 413 ] وقد اختلف فيه ، فمنهم من قال : يدل على العلية ، لكن منهم من قال : يدل عليها قطعا ، كبعض المعتزلة ، ومنهم من قال : ظنا ، كالقاضي أبي بكر ، وكثير من أبناء زماننا ، ومنهم من قال : لا يدل على العلية لا قطعا ولا ظنا ، قال : وهو المختار .

                قلت : فهذا معنى قولنا : " وخالف قوم " أي : في كون الدوران مفيدا للعلية خلاف .

                مثال ذلك الخمر; حين كونه مسكرا حرام ، فهذا اقتران وجود الحكم بوجود الوصف ، ولما كانت عصيرا ، وبعد أن صارت خلا بالاستحالة ، ليست مسكرة ، فليست حراما ، فهذا اقتران العدم بالعدم .

                وقد يكون الدوران في صورة واحدة كما ذكر في الخمر ، وقد يكون في صورتين ، كقولهم في وجوب الزكاة في حلي الاستعمال المباح : العلة الموجبة للزكاة في كل من النقدين كونه أحد الحجرين ، لأن وجوب الزكاة دار مع كونه أحد الحجرين ولا زكاة فيه ، لكن الدوران في صورة أقوى منه في صورتين على ما هو مدرك ضرورة أو نظرا ظاهرا .

                قوله : " لنا " أي : على أن الدوران يفيد العلية هو أنه " يوجب ظن العلية " فيجب اتباعه ، أما أنه يفيد ظن كون الوصف علة ، فلدليل العرف والشرع; أما دليل العرف ، فإن من ناديناه باسم ، فغضب ، ثم سكتنا عنه ، فزال غضبه ، ثم ناديناه فغضب ، وتكرر ذلك منه; حصل لنا العلم فضلا عن الظن بأن علة غضبه ذلك الاسم ، وأيضا فإن هذا شأن العلل العقلية ، والأصل حمل الشرعيات عليها ما لم يقم فارق بين البابين ، فإن الكسر مثلا يوجد [ ص: 414 ] الانكسار بوجوده ، ويعدم بعدمه ، وبمثل ذلك علم الأطباء ما علموه من قوى الأدوية وأفعالها ، كالأدوية المسهلة والقابضة وغيرها ، حيث دارت آثارها معها وجودا وعدما . وكذلك القائلون بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس لما رأوه يكمل بمقابلتها ، وينقص بمقاربتها لغلبتها عليه ، وإن كان هذا من باب الحدس المحتمل; إلا أن مستنده الدوران ، ومستند كثير من أمور الدنيا والآخرة .

                وأما دليل الشرع ، فلأن النبي - عليه السلام - بعث ابن اللتبية عاملا ، فلما عاد من عمله ، جاء بمال ، فجعل يقول : هذا لكم ، وهذا لي أهدي لي ، فخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما بال الرجل نبعثه في عمل المسلمين فيجيء ، فيقول : هذا لكم ، وهذا لي ، ألا جلس في بيت أمه ، فينظر هل يهدى له .

                وهذا عين الاستدلال بالدوران ، أي : إنا إذا استعملناك ، أهدي لك ، وإذا لم نستعملك لم يهد لك ، فعلة الهدية لك استعمالنا إياك ، فثبت بهذا أنه يوجب ظن العلية . وأما أنه إذا وجب ظن العلية ، وجب اتباعه ، فلأن الظن متبع في العمليات بما عرف في الدليل على إثبات القياس من أنه يتضمن دفع ضرر مظنون .

                قوله : " قالوا " يعني المانعين للاحتجاج بالدوران; احتجوا بوجهين :

                أحدهما : أن الاحتجاج إما أن يكون بوجود الحكم عند وجود الوصف ، أو بانتفائه عند انتفائه ، وهو العكس ، فإن كان بالأول ، فهو " طرد محض غير مؤثر " كما تقرر ، وإن كان بالثاني كانتفاء التحريم عند انتفاء الإسكار ، فالعكس [ ص: 415 ] لا يعتبر في العلل الشرعية . وحينئذ لا ينبغي الاعتماد على الدوران .

                الوجه الثاني : أن " المدار " هو ما يدور معه الحكم وجودا وعدما قد يكون علة الإسكار ، و " قد يكون لازما للعلة " كالحمرة والميعان والقذف بالزبد ، وقد يكون " جزءا " للعلة كالعمدية أو العدوانية في علة القصاص ، وإذا كان مدار الحكم محتملا لهذه الأمور ، فتعيينه لكونه علة تحكم ، وترجيح من غير مرجح .

                وبالجملة فالشيء قد يدور مع ما ليس علة ، كحركة الأفلاك مع الكواكب ، وليست علة لها ، والجوهر والعرض كل منهما دائر مع الآخر ، وليست علة له ، وحينئذ لا تحصل الثقة بالدوران ، فلا يعتمد عليه .

                قوله : " قلنا " أي : الجواب عما ذكرتم; أما عن الوجه الأول ، فمن وجهين :

                أحدهما : أن " عدم " تأثير الطرد والعكس " منفردين " أي : كل منهما حال انفراده " لا يمنع تأثيرهما مجتمعين " لأن التركيب يفيد ما لا يفيده الإفراد . وحاصل هذا أنه جواب بمنع الحصر ، لأن قولهم : إما بالوجود عند الوجود أو بالعدم عند العدم تقسيم غير حاصر ، فقولنا : لا نسلم الحصر فيما ذكرتم بالاحتجاج بمجموع الأمرين ، ولا نسلم عدم تأثيره .

                الوجه الثاني : أن العكس عن العلة قد روي عن أحمد ما يدل على اعتباره حيث قال : لا تكون العلة علة حتى يقبل الحكم بإقبالها ، ويدبر بإدبارها ، فعلى هذا يمنع أن العكس لا يعتبر . وحينئذ لا يلزم إلغاء الدوران .

                وبتقديم التسليم - وهو المشهور - نقول : " العكس " في العلة وإن كان غير معتبر بمعنى أنه لا تتوقف صحة العلة عليه ، غير أنه يفيد بانضمامه إلى [ ص: 416 ] الطرد ظنا بأن الوصف علة ، فيجب اتباع ما أفاده من الظن عملا بالدليل العام في ذلك . وقد يحصل الترجيح والتكميل بما ليس مستقلا بالاعتبار .

                وأما الجواب عن الوجه الثاني ، وهو احتمال دوران الحكم مع جزء علته أو شرطها ، فبأن نقول : " احتمال " ذلك " لا ينفي إفادة الظن " بأن مدار الحكم علة على ما سبق بدليل العقل والعرف والشرع ، وإفادة الظن بذلك هي " مناط التمسك " في هذا الباب ، وإذا كان احتمال ما ذكرتموه لا ينفي حصولها ، لم يضرنا ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                وهاهنا طريقة في إثبات المطلوب ، لكنها معارضة بمثلها ، وصورتها أن يقال : بعض الدورانات حجة قطعا كدوران قطع الرأس مع الموت في جاري العادة ، فلتكن جميع الدورانات حجة قطعا تسوية وعدلا بين القسمين ، وإحسانا إلى المكلفين بعدم الاختلاف بينهم وبتوفير خواطرهم على النظر في مدار فروق الأحكام عملا بقوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان [ النحل : 90 ] ، وعورض ذلك بأن بعض الدورانات ليس بحجة قطعا كما سبق ، فليكن جميعها كذلك تسوية بين القسمين ، ولأن بعضها لو كان حجة ، لورد نقضا على ما ليس بحجة منها ، والنقض على خلاف الأصل ، وهذه الطريقة شبهية خيالية من الطرفين ، فلا معول عليها ، وإنما ذكرناها على جهة تدريب الناظر بتركيب الحجج ، إذ هذه الطريقة من أحسنها صورة ووصفا .

                قوله : " وصحح القاضي وبعض الشافعية التمسك بشهادة الأصول المفيدة [ ص: 417 ] للطرد والعكس " إلى آخره . أي : اختلف في التمسك بشهادة الأصول المفيدة للطرد والعكس ، كقولنا في تصحيح ظهار الذمي : " من صح طلاقه ، صح ظهاره " كالمسلم ، وفي عدم وجوب الزكاة في الخيل : ما لا تجب الزكاة في ذكورته منفردة لا تجب في ذكوره وإناثه ، ويستدل على صحة ذلك بالاطراد والانعكاس ، فالإبل والبقر والغنم وجبت في ذكورها منفردة ، فوجبت في ذكورها وإناثها ، والحمر والبغال لم تجب في ذكورها فلم تجب في ذكورها وإناثها ، فكذا ينبغي أن يقال في الخيل .

                فحاصل هذا أن صحة طلاق الذمي شاهد لصحة ظهاره ، وعدم وجوب الزكاة في ذكور الخيل شاهد لعدمها في ذكورها وإناثها ، فذهب القاضي أبو يعلى وبعض الشافعية إلى صحة التمسك بهذا الطريق لشبهه بالدوران وتحصيله غلبة الظن بجامع الطرد والعكس .

                وذهب آخرون إلى عدم صحة التمسك به ، لأن شهادة الأصل ليس نصا في العلية ولا إجماعا ولا مؤثرا ولا ملائما ، ولا مناسبا غريبا ولا مرسلا ، إنما هو مخيل تخييلا شبهيا أن الفرع المشهود له مشتمل على علة الأصل الشاهد ، والظن الحاصل من التخيل إن حصل ضعيف جدا ، فلا يناط به حكم ، ولا يكون معولا عليه .

                قلت : التحقيق في هذا أنه يختلف باختلاف النظار والمجتهدين قوة وضعفا ، وباختلاف الأصول الشاهدة كثرة وقلة ، فمتى كان هذا الطريق مفيدا من الظن ما يساوي ما يفيده دليل آخر متفق عليه بين الفريقين المختلفين فيه ، كخبر الواحد أو العموم أو القياس الجلي ونحوه; صح التمسك به ، إذ قد يتفق ناظر فاضل مرتاض ، فتظهر له أصول كثيرة شاهدة للفرع المتنازع فيه [ ص: 418 ] حتى يكاد يجزم أن حكم هذا الفرع حكم تلك الأصول ، فهذا يجب عليه المصير إلى ما ظنه من ذلك إن كان مجتهدا لنفسه ، وإن كان مناظرا ، أمكنه إبراز تلك الشواهد لخصمه ، وقرب ما ادعاه إلى ذهنه بالمقدمات الظاهرة المقبولة حتى يحصل له الظن بذلك ، فيسلم ، والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية