الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 381 ] القسم الثالث : إثباتها بالاستنباط وهو أنواع :

                أحدها : إثباتها بالمناسبة ، وهي أن يقترن بالحكم وصف مناسب ، وهو ما تتوقع المصلحة عقيبه لرابط ما عقلي ولا يعتبر كونه منشأ للحكمة ، كالسفر مع المشقة ، فيفيد التعليل به لإلفنا من الشارع رعاية المصالح ، وبالجملة متى أفضى الحكم إلى مصلحة علل بالوصف المشتمل عليها; ثم إن ظهر تأثير عينه في عين الحكم ، أو جنسه بنص أو إجماع ، فهو المؤثر كقياس الأمة على الحرة في سقوط الصلاة بالحيض لمشقة التكرار ، ولا يضر ظهور مؤثر آخر معه في الأصل ، فيعلل بالكل كالحيض والردة والعدة ، يعلل منع وطء المرأة بها ، وكقياس تقديم الأخ للأبوين في ولاية النكاح على تقديمه في الإرث ، فالأخوة متحدة نوعا ، وإن ظهر تأثير جنسه في عين الحكم كتأثير المشقة في إسقاط الصلاة عن الحائض ، كالمسافر ، فهو الملائم ، إذ جنس المشقة أثر في عين السقوط; وإن ظهر تأثير جنسه في جنس الحكم كتأثير جنس المصالح في جنس الأحكام ، فهو الغريب .

                وقيل : هذا هو الملائم; وما سواه مؤثر .

                التالي السابق


                " القسم الثالث " :

                من أقسام إثبات العلة : " إثباتها بالاستنباط " ، إذ قد سبق الكلام في إثباتها بالنص والإجماع ، " وهو " - يعني إثباتها بالاستنباط - " أنواع : [ ص: 382 ] أحدها : إثباتها بالمناسبة ، وهي - يعني المناسبة - أن يقترن بالحكم وصف مناسب " وقد سبق مثاله في غير موضع .

                قوله : " وهو " يعني الوصف المناسب ، " ما تتوقع المصلحة عقيبه لرابط ما عقلي " .

                قلت : قد اختلف في تعريف المناسب ، واستقصاء القول فيه من المهمات ، لأن عليه مدار الشريعة ، بل مدار الوجود ، إذ لا موجود إلا وهو على وفق المناسبة العقلية ، لكن أنواع المناسبة تتفاوت في العموم والخصوص ، والخفاء والظهور ، فما خفيت عنا مناسبته ، سمي تعبدا ، وما ظهرت مناسبته سمي معللا ، فقولنا : المناسب ما تتوقع المصلحة عقيبه ، أي : ما إذا وجد أو سمع ، أدرك العقل السليم كون ذلك الوصف سببا مفضيا إلى مصلحة من المصالح لرابط من الروابط العقلية بين تلك المصلحة وذلك الوصف ، وهو معنى قولي : " لرابط ما عقلي " .

                ومثاله : أنه إذا قيل : المسكر حرام ، أدرك العقل أن تحريم المسكر مفض إلى مصلحة ، وهي حفظ العقول من الاضطراب ، وإذا قيل : القصاص مشروع ، أدرك العقل أن شرعية القصاص سبب مفض إلى مصلحة ، وهي حفظ النفوس ، وأمثلته كثيرة ظاهرة ، وإنما قلت : ما تتوقع المصلحة عقيبه لرابط عقلي أخذا من النسب الذي هو القرابة ، فإن المناسب هاهنا مستعار ومشتق من ذلك ، ولا شك أن المتناسبين في باب النسب كالأخوين وابني العم ونحو ذلك ، إنما كانا متناسبين لمعنى رابط بينهما وهو القرابة ، فكذلك الوصف المناسب هاهنا لابد وأن يكون بينه وبين ما يناسبه من المصلحة [ ص: 383 ] رابط عقلي ، وهو كون الوصف صالحا للإفضاء إلى تلك المصلحة عقلا .

                قال الآمدي : وقد فسر أبو زيد المناسب بما لو عرض على العقول تلقته بالقبول ، وبنى على ذلك امتناع الاحتجاج على العلة به في مقام المناظرة دون النظر لاحتمال أن يقول الخصم : هذا لا يتلقاه عقلي بالقبول ، وتلقي غيري له بالقبول ليس حجة علي .

                قلت : وهذا لا يلزم لأنا إذا نظرنا في أدنى مراتب المناسب ، وجدنا العقول تبادر إلى تلقيه بالقبول ، فإذا قال الخصم : هذا لا يتلقاه عقلي بالقبول ، فأحد الأمرين لازم; إما أن الوصف المذكور غير مناسب في نفسه ، فالخصم معذور في إنكاره ، وإما عناد من الخصم المنكر; وحينئذ على المستدل بيان مناسبته ببيان مناسبة أمثاله عند العقلاء ، خصوصا إن كان الخصم يسلم مناسبة مثل ذلك الوصف في رتبته ، فتثبت مناسبته ، إذ حكم المثلين واحد ، أو مناسبة ما هو دونه ، فتثبت مناسبته هو بطريق الأولى .

                مثاله : لو استدل على إرث المبتوتة في مرض الموت بأن توريثها مناقضة للميت في قصده حرمانها ، وذلك مناسب لتلقي العقل له بالقبول ، فإذا قال الخصم : ليس هذا مناسبا ، وعقلي لا يتلقاه بالقبول ، فيقول المستدل : قد سلمت مناسبة مثل هذا الوصف في حرمان القاتل إرثه من موروثه معارضة له بنقيض قصده ، فإن سلمت المناسبة هنا ، لزمك تسليمها هناك لاستوائهما ، وإن منعت المناسبة في الموضعين; فقد سلم العقلاء مناسبة أوصاف هي مثل هذا الوصف ودونه في قبول العقل له ، ومن الممتنع عادة إصابتك وخطؤهم ، فأنت إذن معاند مسفسط تحرم المناظرة معك ، فهذا أيضا طريق جيد مناسب [ ص: 384 ] في إثبات المناسب على من أنكره .

                والأصل في هذا أن القضايا العقلية أصناف; منها البديهيات والنظريات والمقبولات ، والمناسب من قبيل المقبولات ، وهي ما تلقاه العقل بجوهره بالقبول من غير قطع به ، فالعقول معيار له لا تختلف فيه ، كما لا تختلف في إدراك البديهيات مع القطع ، والنظريات بعد تحقيق مقدمات النظر .

                وقال الآمدي : أما نحن; فنقول : المناسب عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم عليه حصول ما يصلح أن يكون مقصودا للشارع من تحصيل مصلحة أو تكميلها ، أو دفع مفسدة أو تقليلها دنيا وأخرى على وجه يمكن إثباته بما لو أصر الخصم على منعه بعده ، يكون معاندا .

                قلت : هذا غاية ما يقال في ضبط رسم المناسب ، وتحصيل أصل المصلحة ، كشرع القصاص ، وتحريم الخمر ، وتكميلها كاشتراط المكافأة والمساواة في القصاص ، وتحريم يسير الخمر لإفضائه إلى كثيره ، ودفع المفسدة كإيجاب القود لدفع مفسدة إتلاف النفوس ، وتقليلها كإيجابه في القتل بالمثقل ، لأن فيه تقليلا للقتل ، لئلا يتخذ ذريعة إلى إزهاق النفوس ، وكإيجابه على الجماعة المشتركين في قتل أو قطع ، أو نحو ذلك .

                وقال القرافي : المناسب ما تضمن تحصيل مصلحة أو درء مفسدة ، فالأول يعني تحصيل المصلحة كالغنى هو علة وجوب الزكاة لتضمنه مصلحة الفقراء ورب المال ، والثاني : - يعني درء المفسدة - كتحريم الخمر .

                [ ص: 385 ] وقال النيلي : المناسب ما كان إثبات الحكم عقيبه مفضيا إلى ما يوافق نظر العقلاء في المعاش ، أو في المعاد . أما المعاش; فكبقاء الأنفس ، والزيادة في المال ، وأما في المعاد; فكتحصيل الثواب ، أو رفع العقاب . ثم الحكم تارة يكون تحصيلا للمصلحة ، وتارة تكميلا لها ، وتارة مديما لها ، وذكر أمثلة من ذلك ، وهي ظاهرة لمن له نظر في الأحكام .

                ثم المناسب ينقسم إلى ما هو في محل الضرورات ، وإلى ما هو في محل الحاجات ، وإلى ما هو في محل التتمات والتكميلات ، وهي في مراتبها على هذا الترتيب في التقديم عند التعارض يقدم الأول ثم الثاني ثم الثالث . وقد سبق بيان أقسامه عند ذكر المصالح المرسلة ، والبابان واحد ، لأن المصلحة مضمون المناسب ، والمناسب متضمن للمصلحة .

                ومثال اجتماع أقسامه الثلاثة في وصف واحد أن نفقة النفس ضرورية ، ونفقة الزوجات حاجية ، ونفقة الأقارب تتمة وتكملة ، ولهذا قدم بعضها على بعض على الترتيب المذكور ، وتأكدت نفقة الزوجة على نفقة القريب حتى سقطت نفقته بمضي الزمن دون نفقتها . وقد سبق التنبيه على أن مراتب المناسب متفاوتة في الجلاء والخفاء ، والقوة والضعف ، وسرعة القبول وعدمه ، وذلك ظاهر لمن نظر في مناسبات الأحكام لعللها ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                [ ص: 386 ] قوله : " ولا يعتبر كونه منشأ للحكمة ، كالسفر مع المشقة " .

                اعلم أن هذا المكان من دقائق هذا الباب خصوصا على نشأة الطلاب ، فيجب الاعتناء بكشفه ، وقد تضمنت الجملة المذكورة ألفاظا ينبغي الكشف عنها ، ثم ذكر معنى الجملة بعدها كما ينبغي إن شاء الله تعالى .



                أما الألفاظ المذكورة ، فهي المناسب ، والمنشأ ، والحكمة .

                أما المناسب ، فقد سبق الكشف عن حقيقته .

                وأما الإنشاء فهو محل النشء وهو الظهور ، يقال : نشأ ينشأ نشأ ونشوءا : إذا بدا ، وظهر ، ونشأ الشيء : مظهره ومبدؤه ، وهو الموضع الذي يظهر ويبدو منه .

                والحكمة غاية الحكم المطلوبة بشرعه ، كحفظ الأنفس والأموال بشرع القود والقطع .

                إذا عرف هذا ، فيكون هذا الوصف المناسب منشأ للحكمة المطلوبة من الحكم غير مشترط خلافا لقوم ، بل المعتبر ثبوت المصلحة عقيبه ، وهو أعلم من أن يكون منشأ لها أو لا ، فإن قولنا : هذا الوصف مناسب يصدق باعتبارات ثلاث :

                أحدها : أن يكون منشأ للحكمة ، كقولنا : السفر منشأ المشقة المبيحة للترخص ، والقتل منشأ المفسدة; وهي تفويت النفس ، والزنى منشأ [ ص: 387 ] المفسدة; وهي تضييع الأنساب وإلحاق العار ، فهذه الأوصاف ينشأ عنها الحكمة التي ثبتت هذه الأوصاف لأجلها ، وأصلح من هذا أن يقال : إيجاب القصاص منشأ حكمة الردع عن القتل ، وإيجاب الحد منشأ حكمة الردع عن الزنى والقذف والشرب ونحوها ، لأن ذلك يتضمن تحصيل مصلحة ودرء مفسدة ، وهي الحكمة المطلوبة من إثبات الحكم .

                الاعتبار الثاني : أن يكون الوصف معرفا للحكمة ودليلا عليها ، كقولنا : النكاح أو البيع الصادر من الأهل في المحل يناسب الصحة ، أي : يدل على الحاجة التي اقتضت جعل البيع سببا للصحة .

                قلت : التحقيق في هذا أن الحكمة هي الانتفاع بالمبيع مثلا ، والحاجة اقتضت جعل البيع سببا لتحصيل الانتفاع بواسطة الصحة ، فالحاجة مناسبة لتحصيل الانتفاع بواسطة البيع .

                الاعتبار الثالث : أن يظهر عند الوصف ، ولم ينشأ عنه ، ولم يدل عليه ، كشكر النعمة المناسب للزيادة منها ، فالشكر هو الوصف المناسب ، وزيادة النعمة هي الحكمة ، ووجوب الشكر هو الحكم ، لكن في كون الشكر لا يدل على زيادة النعمة نظر .

                وبالجملة فهذه أمثلة تقريبية إن لم تكن تحقيقية . ومن ذلك قولنا : الغنى مناسب لإيجاب الزكاة مواساة للفقراء ، ودفعا لضرر الفقر عنهم ، فالغنى هو الوصف ، وإيجاب الزكاة هو الحكم ، ومواساة الفقراء هي الحكمة ، وكل حكم شرعي تعليلي ، فلا بد له من سبب مناسب يقتضيه ، ومن حكمة هي الغاية المطلوبة منه تترتب عليه . واعتبر هذا بالاستقراء والاستئناس بما ذكرناه من الأمثلة تجده صحيحا وإنما قيدنا الحكم بأنه تعليلي ، لأن الحكم التعبدي [ ص: 388 ] وإن اقتضاه سبب ، وترتبت عليه حكمة ، لكن سببه تارة يناسب ، وتارة لا يناسب كأكل لحم الجزور لنقض الوضوء .

                قوله : " فيفيد التعليل به " أي : متى كان الوصف مما يتوقع عقيبه مصلحة لرابط عقلي ، فهو مناسب ، فيفيدنا تعليل الحكم ، أي : إن الحكم معلل به ، " لإلفنا من الشارع رعاية " مصالح العباد تفضلا لا وجوبا ، فمتى رأينا حكما ثبت عقيب وصف مناسب ، وذلك الحكم متضمن مصلحة; غلب على ظننا أن ذلك الحكم ثبت لتحصيل تلك المصلحة التي أفضى إليها ذلك الوصف .

                " وبالجملة متى أفضى الحكم إلى مصلحة علل بالوصف المشتمل عليها " كقتل المرتد المفضي إلى صيانة الدين ، يعلل بما اشتمل عليه تبديل الدين من المفسدة التي درؤها من أكبر المصالح .

                قال الآمدي : الحكمة إما أن تكون ناشئة عن ضابطها ، أو لا ، فالأول كمشقة السفر المعتبرة في جواز الترخص . والثاني وهو الذي لا تكون الحكمة فيه ناشئة عن ضابطها; إما أن يكون الضابط دالا على الحاجة إليها ، أو لا . فالأول : كالانتفاع المعتبر في صحة البيع بالنسبة إلى التصرف من الأهل . والثاني : كزيادة النعمة المعتبرة في إيجاب الزكاة بالنظر إلى ملك النصاب .

                قلت : هذا معنى كلامه بأبسط منه ، وربما كان فيه غموض على بعض الناظرين ، وقد سبق معناه ممثلا ، وضابط الحكمة هو الوصف الذي رتب [ ص: 389 ] الشارع عليه الحكم ، وربطه به لتحصيلها .

                ثم الحكمة قد يمكن اعتبار حقيقتها لانضباطها في نفسها ، فيعتبر حصولها حقيقة ، كصيانة النفوس الحاصل من إيجاب القصاص ، وقد لا يمكن فيعتبر بمظنتها ، كربط جواز الترخص بالسفر لكونه مظنة المشقة المبيحة للترخص .

                وهذا المثال إن كان مطابقا للمراد ، فذاك ، وإن لم يكن مطابقا ، فالقاعدة المذكورة محصلة له عند الفطن .



                قوله : " ثم إن ظهر تأثير عينه في عين الحكم أو جنسه بنص أو إجماع ، فهو المؤثر " إلى آخره .

                هذا بيان لأقسام تأثير المناسب في الحكم ومعنى تأثيره ، وهو اقتضاؤه بحكم المناسبة لترتب الحكم عليه ، وأقسامه على ما في " المختصر " أربعة : لأنه إما أن يؤثر عينه في عين الحكم ، أو عينه في جنس الحكم ، أو يؤثر جنسه في جنس الحكم ، أو جنسه في عين الحكم ، وإن شئت ، قلت : إما أن يؤثر عينه في عين الحكم ، أو جنسه في جنس الحكم ، أو عينه في جنس الحكم ، أو جنسه في عين الحكم .

                ومعنى ذلك أنا إذا رأينا حكما قد ترتب على وصف مناسب ثبتت مناسبته بنص أو إجماع; ألحقنا به إثبات عين ذلك الحكم أو جنسه بذلك الوصف المناسب في صورة أخرى . هذا معنى قوله : " ثم إن ظهر تأثير عينه في [ ص: 390 ] عين الحكم أو جنسه بنص أو إجماع " فهذا المؤثر أي : ثبت تأثير الوصف في حكم الأصل المقيس عليه بنص أو إجماع كما سبق . ثم إنا نورد الأمثلة على ترتيب " المختصر " ونبين مقاصد ما يحتاج إلى البيان من ألفاظه إن شاء الله تعالى .

                وهذا المكان من مشكلات القياس تحقيقا وتصورا ، خصوصا على المبتدئ ومن ضعفت أنسته به .

                مثال الأول ، وهو ما ظهر تأثير عينه في عين الحكم بنص أو إجماع قولنا : سقطت الصلاة عن الحرة الحائض بالنص والإجماع لمشقة التكرار ، لأن الصلاة تتكرر ، فلو وجب قضاؤها ، لشق عليها ذلك ، فقد ظهر تأثير المشقة المذكورة في إسقاط الصلاة بالإجماع ، فألحقنا الأمة بالحرة في ذلك ، فعين الوصف وهو المشقة أثر في عين الحكم وهو سقوط الصلاة .

                قلت : وفي هذا المثال نظر ، لأن دليل الشرع لم يرد بذلك في خصوص الحرة حتى يكون إثبات الحكم في الأمة قياسا عليها ، بل ورد في الحائض ، وهي أعم من الحرة والأمة ، فالحكم ثابت في الأمة بما ثبت في الحرة ، والدليل الشرعي هو ما روي أن عمرة قالت لعائشة - رضي الله عنها - : ما بال الحائض تقضي الصوم ، ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت : كنا نحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنقضي الصوم ، ولا نقضي الصلاة . وهذا إخبار عن عموم النساء في ذلك الحرة والأمة ، ثم انعقد عليه الإجماع .

                [ ص: 391 ] نعم ، هذا المثال يصح على جهة التقدير ، أي : لو قدرنا أن النص ورد بذلك في خصوص الحرة ، لكان إلحاق الأمة بها فيه من باب ما أثر عينه في عين الحكم .

                ومن هذا الباب إلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق ، وإلحاق ولاية النكاح بولاية المال بجامع الصغر ، فالصغر وصف أثر عينه في عين الحكم وهو الولاية على الصغير ، ولم يختلف إلا محل الولاية وهو المال والنكاح .

                وكذلك قولنا : الطواف موجود في الفأرة ونحوها ، فتكون طاهرة كالهر ، فالطواف وصف أثر عينه في الحكم وهو الطهارة .

                قوله : " ولا يضر ظهور مؤثر آخر معه في الأصل فيعلل بالكل " إلى آخره . أي : إن هذا الوصف المؤثر عينه في عين الحكم لا يضر وجود وصف آخر معه في الأصل المقيس عليه الثابت تأثير الوصف فيه بالنص أو الإجماع ، بل إن وجد معه مؤثر آخر ، علل بهما الأصل ، وألحق الفرع به بجامع الوصف المشترك بينهما ، وذلك كالحائض المعتدة المرتدة; يعلل امتناع وطئها بالأسباب الثلاثة : الحيض والعدة والردة ، فلو أردنا أن نقيس الأمة على الحرة في ذلك بأحد الأوصاف المذكورة ، صح ، وكان من باب المناسب المؤثر بتقدير أن لا يكون النص شاملا لها .

                قوله : " وكقياس تقديم الأخ للأبوين في ولاية النكاح على تقديمه في الإرث " .

                هذا مثال الثاني ، وهو ما أثر عينه في جنس الحكم ، كقولنا : الأخ للأبوين [ ص: 392 ] مقدم في ولاية النكاح قياسا على تقديمه في الإرث ، فالوصف الذي هو الأخوة في الأصل والفرع متحد بالنوع ، والحكم الذي هو الولاية والإرث متحدان بالجنس لا بالنوع ، فهذا وصف أثر عينه في جنس الحكم ، وهو جنس التقديم ، فعين الأخوة أثرت في جنس التقديم بخلاف ما قبل هذا; وهو تأثير المشقة في سقوط الصلاة ، فإن المشقة والسقوط متحدان بالنوع ، أي : المشقة في الأمة والحرة متحدان بالنوع ، وسقوط الصلاة في حقهما كذلك ، إذ هي مشقة ومشقة ، وسقوط وسقوط ، بخلاف الأخوة مع الولاية والإرث ، إذ نقول : هي أخوة وأخوة ، فيتحدان بالنوع ، ولا نقول : ولاية وولاية ، ولا إرث وإرث; حتى يتحدا في نوع واحد ، بل نقول : ولاية نكاح وإرث ، فيختلفان بالنوع ، أي : لا يجمعهما نوع واحد ، بل إنما يجمعهما جنس واحد ، وهو جنس التقديم .

                قوله : " وإن ظهر تأثير جنسه في عين الحكم " إلى آخره .

                هذا مثال القسم الثالث من أقسام المناسب ، وهو ما أثر جنسه في عين الحكم ، كقولنا : سقطت الصلاة عن الحائض لأجل المشقة قياسا على المسافر ، فقد أثر جنس المشقة في عين السقوط ، إذ مشقة تكرار الصلاة في حق الحائض مخالفة لمشقة إتمامها في حق المسافر ، إن لم يكن بالحقيقة والماهية فبالكمية والكيفية ، أما ماهية السقوط في حقهما فواحدة . ولقائل أن [ ص: 393 ] يقول : هذا المثال هو من القسم الأول; وهو ما أثر عينه في عين الحكم ، لأن نوع المشقة في التأثير واحد ، وكذا نوع الحكم ، وإنما اختلفا من جهة سببهما ، إذ هذه مشقة تكرار ، وهذه مشقة إتمام ، وهذا سقوط أصل الصلاة ، وذاك سقوط ركعتين منها .

                والأجود أن يقال في المثال المذكور : كإسقاط الصلاة عن الحائض للمشقة ، فإن جنس المشقة أثر في عين هذا السقوط من غير تعرض لمسافر ولا غيره . وهذا يسمى " الملائم " أي : الموافق أي : هو موافق لتصرف الشرع في تأثير جنس الأسباب في أعيان الأحكام ، وهذا تخصيص اصطلاحي ، وإلا فسائر أقسام المناسب ملائمة بهذا الاعتبار ، إذ هي موافقة لجنس مراعاة الشرع للمصالح المناسبة ، وكذلك تحريم يسير الخمر والنبيذ ، والخلوة بالأجنبية لإفضاء ذلك بالاسترسال فيه إلى السكر والوطء المحرمين من باب حسم المواد ، فجنس حسم المواد أثر في تحريم عين شرب اليسير وعين الخلوة .

                قوله : " وإن ظهر تأثير جنسه في جنس الحكم " إلى آخره .

                هذا مثال القسم الرابع من أقسام المناسب ، وهو ما أثر جنسه في جنس الحكم ، " كتأثير جنس المصالح في جنس الأحكام " أي : إلحاق بعض الأحكام ببعض بجامع المناسبة المصلحية المطلقة .

                ومثله القرافي بإلحاق شارب الخمر بالقاذف في جلده ثمانين ، كما قال علي - رضي الله عنه - : أراه إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، فأرى عليه حد المفتري . فأخذ مطلق المناسبة ، ومطلق المظنة .

                [ ص: 394 ] قلت : فمظنة جنس الافتراء وهو الوصف أثرت في جنس الجلد أو الحد ، وهو الحكم . وهذا يسمى المناسب " الغريب " لقلة التفات الشرع إليه في تصرفاته ، فبقي لقلة وقوعه ، كالغريب بين أهل البلد .

                " وقيل : هذا هو الملائم " يعني قال بعض الأصوليين : الملائم ما ظهر تأثير جنسه في جنس الحكم ، " وما سواه " من الأقسام المتقدمة " مؤثر " وهي تأثير العين في العين ، وتأثير العين في الجنس ، وتأثير الجنس في العين .

                ووجه هذا القول هو أنا باستقراء موارد الشرع ومصادره نجده من حيث الجملة يراعي جنس المصالح في جنس الأحكام . وحينئذ يكون تأثير الجنس في الجنس ملائما لتصرف الشرع . وأما ما سوى ذلك من أنواع تأثير الوصف ، فهو أقوى من هذا النوع المذكور كما سيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى .

                وإذا كان الأضعف ملائما ، فجدير أن يكون الأقوى مؤثرا ، وإن تفاوت في قوة التأثير وضعفه ، ويتعلق بهذا كلام يأتي إن شاء الله تعالى .




                الخدمات العلمية