الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب وفاة موسى وذكره بعد

                                                                                                                                                                                                        3226 حدثنا يحيى بن موسى حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت قال ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال أي رب ثم ماذا قال ثم الموت قال فالآن قال فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر قال أبو هريرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر قال وأخبرنا معمر عن همام حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه [ ص: 507 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 507 ] قوله : ( باب وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة الآية ) لم يذكر فيه سوى شيء من التفسير عن أبي العالية ، وقصة البقرة أوردها آدم بن أبي إياس في تفسيره قال : حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قال : كان رجل من بني إسرائيل غنيا ولم يكن له ولد وكان له قريب وارث فقتله ليرثه ثم ألقاه على مجمع الطريق ، وأتى موسى فقال إن قريبي قتل وأتى إلي أمر عظيم ، وإني لا أجد أحدا يبين لي قاتله غيرك يا نبي الله ، فنادى موسى في الناس : من كان عنده علم من هذا فليبينه ، فلم يكن عندهم علم ، فأوحى الله إليه : قل لهم فليذبحوا بقرة ، فعجبوا وقالوا : كيف نطلب معرفة من قتل هذا القتيل فنؤمر بذبح بقرة ؟ وكان ما قصه الله تعالى قال : إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر يعني لا هرمة ولا صغيرة عوان بين ذلك أي نصف بين البكر والهرمة قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها أي صاف تسر الناظرين أي تعجبهم قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي الآية قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول - أي لم يذلها العمل - تثير الأرض يعني ليست بذلول فتثير الأرض ولا تسقي الحرث يقول : ولا تعمل في الحرث مسلمة أي من العيوب ، لا شية فيها - أي لا بياض - قالوا الآن جئت بالحق قال ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة استرضوا أي بقرة كانت لأجزأت عنهم ، ولكنهم شددوا فشدد عليهم ، ولولا أنهم استثنوا فقالوا وإنا إن شاء الله لمهتدون لما اهتدوا إليها أبدا . فبلغنا أنهم لم يجدوها إلا عند عجوز ، فأغلت عليهم في الثمن ، فقال لهم موسى : أنتم شددتم على أنفسكم فأعطوها ما سألت ، فذبحوها ، فأخذوا عظما منها فضربوا به القتيل فعاش ، فسمى لهم قاتله ، ثم مات مكانه فأخذ قاتله ، وهو قريبه الذي كان يريد أن يرثه فقتله الله على أسوإ عمله .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج ابن جرير هذه القصة مطولة من طريق العوفي عن ابن عباس ، ومن طريق السدي كذلك . وأخرجها هو وابن أبي حاتم وعبد بن حميد بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة بن عمرو السلماني أحد كبار التابعين . وأما قوله " صفراء إن شئت سوداء ويقال صفراء كقوله جمالات صفر " فهو قول أبي عبيدة ، قال في قوله تعالى : صفراء فاقع لونها : إن شئت صفراء وإن شئت سوداء كقوله جمالات صفر أي سود ، والمعنى أن الصفرة يمكن حملها على معناها المشهور وعلى معنى السواد كما في قوله : جمالات صفر فإنها فسرت بأنها صفر تضرب إلى سواد . وقد روي عن الحسن أنه أخذ أنها سوداء من قوله : فاقع لونها . وقوله : فادارأتم اختلفتم هو قول أبي عبيدة أيضا : وهو من التدارؤ وهو التدافع .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 508 ] [ ص: 509 ] قوله : ( وفاة موسى وذكره بعد ) كذا لأبي ذر بإسقاط " باب " ولغيره بإثباته . وقوله : ( وذكره بعد ) بضم دال بعد على البناء .

                                                                                                                                                                                                        ثم أورد فيه أحاديث الأول حديث أبي هريرة في قصة موسى مع ملك الموت . أورده موقوفا من طريق طاوس عنه ، ثم عقبه برواية همام عنه مرفوعا وهذا هو المشهور عن عبد الرزاق ، وقد رفع محمد بن يحيى عنه رواية طاوس أيضا أخرجه الإسماعيلي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام فلما جاءه صكه ) أي ضربه على عينه ، وفي رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد ومسلم جاء ملك الموت إلى موسى فقال : أجب ربك ، فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها وفي رواية عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عند أحمد والطبري كان ملك الموت يأتي الناس عيانا ، فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لا يريد الموت ) زاد همام وقد فقأ عيني ، فرد الله عليه عينه وفي رواية عمار فقال يا رب عبدك موسى فقأ عيني ، ولولا كرامته عليك لشققت عليه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقل له يضع يده ) في رواية أبي يونس فقل له الحياة تريد ؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( على متن ) بفتح الميم وسكون المثناة هو الظهر ، وقيل : مكتنف الصلب بين العصب واللحم ، وفي رواية عمار على جلد ثور .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فله بما غطى يده ) في رواية الكشميهني بما غطت يده .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم الموت ) في رواية أبي يونس " قال فالآن يا رب من قريب " وفي رواية عمار " فأتاه فقال له ما بعد هذا ؟ قال : الموت قال : فالآن ، والآن ظرف زمان غير متمكن ، وهو اسم لزمان الحال الفاصل بين الماضي والمستقبل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ) قد تقدم شرح ذلك وبيانه في الجنائز .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلو كنت ثم ) بفتح المثلثة أي هناك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من جانب الطريق ) في رواية المستملي والكشميهني " إلى جانب الطريق " وهي رواية همام .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تحت الكثيب الأحمر ) في روايتهما " عند الكثيب الأحمر " وهي رواية همام أيضا ، والكثيب بالمثلثة وآخره موحدة وزن عظيم : الرمل المجتمع ، وزعم ابن حبان أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبيت المقدس ، وتعقبه الضياء بأن أرض مدين ليست قريبة من المدينة ولا من بيت المقدس ، قال وقد اشتهر عن قبر بأريحاء عنده كثيب أحمر أنه قبر موسى ، وأريحاء من الأرض المقدسة ، وزاد عمار في روايته " فشمه شمة فقبض روحه ، وكان يأتي الناس خفية " يعني بعد ذلك ، ويقال إنه أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فمات . وذكر السدي في تفسيره أن موسى لما دنت وفاته مشى هو وفتاه يوشع بن نون فجاءت ريح سوداء ، فظن يوشع أنها الساعة فالتزم موسى ، فانسل موسى من تحت القميص ، فأقبل يوشع بالقميص . وعن وهب بن منبه أن الملائكة تولوا دفنه والصلاة عليه ، وأنه عاش مائة وعشرين سنة .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 510 ] قوله : ( قال وأخبرنا معمر عن همام إلخ ) هو موصول بالإسناد المذكور ، ووهم من قال إنه معلق ، فقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر ، ومسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق كذلك ، وقوله في آخره : " نحوه " أي إن رواية معمر عن همام بمعنى روايته عن ابن طاوس لا بلفظه ، وقد بينت ذلك فيما مضى ، قال ابن خزيمة : أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وقالوا إن كان موسى عرفه فقد استخف به ، وإن كان لم يعرفه فكيف لم يقتص له من فقء عينه والجواب أن الله لم يبعث ملك الموت لموسى وهو يريد قبض روحه حينئذ ، وإنما بعثه إليه اختبارا وإنما لطم موسى ملك الموت لأنه رأى آدميا دخل داره بغير إذنه ولم يعلم أنه ملك الموت ، وقد أباح الشارع فقأ عين الناظر في دار المسلم بغير إذن ، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة آدميين فلم يعرفاهم ابتداء ، ولو عرفهم إبراهيم لما قدم لهم المأكول ، ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه . وعلى تقدير أن يكون عرفه فمن أين لهذا المبتدع مشروعية القصاص بين الملائكة والبشر ؟ ثم من أين له أن ملك الموت طلب القصاص من موسى فلم يقتص له ، ولخص الخطابي كلام ابن خزيمة وزاد فيه أن موسى دفعه عن نفسه لما ركب فيه من الحدة ، وأن الله رد عين ملك الموت ليعلم موسى أنه جاءه من عند الله فلهذا استسلم حينئذ . وقال النووي لا يمتنع أن يأذن الله لموسى في هذه اللطمة امتحانا للملطوم . وقال غيره إنما لطمه لأنه جاء لقبض روحه من قبل أن يخيره ، لما ثبت أنه لم يقبض نبي حتى يخير ، فلهذا لما خيره في المرة الثانية أذعن ، قيل : وهذا أولى الأقوال بالصواب ، وفيه نظر لأنه يعود أصل السؤال فيقال : لم أقدم ملك الموت على قبض نبي الله وأخل بالشرط ؟ فيعود الجواب أن ذلك وقع امتحانا . وزعم بعضهم أن معنى قوله : " فقأ عينه " أي أبطل حجته ، وهو مردود بقوله في نفس الحديث " فرد الله عينه " وبقوله : " لطمه وصكه " وغير ذلك من قرائن السياق . وقال ابن قتيبة : إنما فقأ موسى العين التي هي تخييل وتمثيل وليست عينا حقيقة ، ومعنى رد الله عينه أي أعاده إلى خلقته الحقيقية ، وقيل : على ظاهره ، ورد الله إلى ملك الموت عينه البشرية ليرجع إلى موسى على كمال الصورة فيكون ذلك أقوى في اعتباره ، وهذا هو المعتمد . وجوز ابن عقيل أن يكون موسى أذن له أن يفعل ذلك بملك الموت وأمر ملك الموت بالصبر على ذلك كما أمر موسى بالصبر على ما يصنع الخضر . وفيه أن الملك يتمثل بصورة الإنسان ، وقد جاء ذلك في عدة أحاديث . وفيه فضل الدفن في الأرض المقدسة ، وقد تقدم شرح ذلك في الجنائز . واستدل بقوله : " فلك بكل شعرة سنة " على أن الذي بقي من الدنيا كثير جدا لأن عدد الشعر الذي تواريه اليد قدر المدة التي بين موسى وبعثة نبينا صلى الله عليه وسلم مرتين وأكثر . واستدل به على جواز الزيادة في العمر وقد قال به قوم في قوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب أنه زيادة ونقص في الحقيقة . وقال الجمهور : والضمير في قوله : من عمره للجنس لا للعين ، أي ولا ينقص من عمر آخر ، وهذا كقولهم عندي ثوب ونصفه أي ونصف ثوب آخر . وقيل المراد بقوله ولا ينقص من عمره أي وما يذهب من عمره ، فالجميع معلوم عند الله تعالى . والجواب عن قصة موسى أن أجله قد كان قرب حضوره ولم يبق منه إلا مقدار ما دار بينه وبين ملك الموت من المراجعتين ، فأمر بقبض روحه أولا مع سبق علم الله أن ذلك [ ص: 511 ] لا يقع إلا بعد المراجعة وإن لم يطلع ملك الموت على ذلك أولا . والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية