الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 414 ] كتاب الإيلاء الإيلاء في اللغة : الحلف . يقال : آلى يولي إيلاء وألية . وجمع الألية ألايا ، قال الشاعر :

                                                                                                                                            قليل الألايا حافظ ليمينه إذا صدرت منه الألية برت

                                                                                                                                            ويقال : تألى يتألى . وفي الخبر : { من يتأل على الله يكذبه } . فأما الإيلاء في الشرع ، فهو الحلف على ترك وطء المرأة . والأصل فيه قول الله تعالى { : للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } . وكان أبي بن كعب وابن عباس يقرآن : " يقسمون " .

                                                                                                                                            ( 6105 ) مسألة قال : والمولي الذي يحلف بالله عز وجل أن لا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر وجملته أن شروط الإيلاء أربعة أحدها ، أن يحلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته . ولا خلاف بين أهل العلم في أن الحلف بذلك إيلاء . فأما إن حلف على ترك الوطء بغير هذا ، مثل أن حلف بطلاق ، أو عتاق ، أو صدقة المال ، أو الحج ، أو الظهار ، ففيه روايتان ; إحداهما ، لا يكون موليا وهو قول الشافعي القديم . والرواية الثانية ، هو مول . وروي عن ابن عباس ، أنه قال : كل يمين منعت جماعها ، فهي إيلاء .

                                                                                                                                            وبذلك قال الشعبي ، والنخعي ، ومالك ، وأهل الحجاز والثوري ، وأبو حنيفة ، وأهل العراق والشافعي ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وغيرهم ; لأنها يمين منعت جماعها فكانت إيلاء ، كالحلف بالله تعالى ، ولأن تعليق الطلاق والعتاق على وطئها حلف ، بدليل أنه لو قال : متى حلفت بطلاقك ، فأنت طالق . ثم قال : إن وطئتك ، فأنت طالق . طلقت في الحال . وقال أبو بكر : كل يمين من حرام أو غيرها ، يجب بها كفارة ، يكون الحالف بها موليا . وأما الطلاق والعتاق ، فليس الحلف به إيلاء ; لأنه يتعلق به حق آدمي ، وما أوجب كفارة تعلق بها حق الله تعالى .

                                                                                                                                            والرواية الأولى هي المشهورة ; لأن الإيلاء المطلق إنما هو القسم ، ولهذا قرأ أبي وابن عباس " يقسمون " . مكان : يؤلون . وروي عن ابن عباس في تفسير يؤلون . قال : يحلفون بالله . هكذا ذكره الإمام أحمد والتعليق بشرط ليس بقسم ولهذا لا يؤتى فيه بحرف القسم ، ولا يجاب بجوابه ، ولا يذكره أهل العربية في باب القسم ، فلا يكون إيلاء ، وإنما يسمى حلفا تجوزا ، لمشاركته القسم في المعنى المشهور في القسم ، وهو الحث على الفعل أو المنع منه ، أو توكيد الخبر ، والكلام عند إطلاقه لحقيقته ; ويدل على هذا قول الله تعالى { : فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم } . وإنما يدخل الغفران في اليمين بالله . وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم { : من حلف بغير الله فقد أشرك } . وقوله : { إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم } متفق عليه .

                                                                                                                                            وإن سلمنا أن غير القسم حلف ، لكن الحلف بإطلاقه إنما ينصرف إلى القسم ، وإنما يصرف إلى [ ص: 415 ] غير القسم بدليل ، ولا خلاف في أن القسم بغير الله تعالى وصفاته لا يكون إيلاء ; لأنه لا يوجب كفارة ولا شيئا يمنع من الوطء ، فلا يكون إيلاء ، كالخبر بغير القسم .

                                                                                                                                            وإذا قلنا بالرواية الثانية فلا يكون موليا إلا أن يحلف بما يلزمه بالحنث فيه حق كقوله : إن وطئتك فعبدي حر . أو : فأنت طالق . أو : فأنت علي كظهر أمي . أو : فأنت علي حرام . أو : فلله علي صوم سنة أو الحج أو صدقة . فهذا يكون إيلاء ; لأنه يلزمه بوطئها حق يمنعه من وطئها خوفه من وجوبه . وإن قال : إن وطئتك فأنت زانية . لم يكن موليا ; لأنه لا يلزمه بالوطء حق ، ولا يصير قاذفا بالوطء ; لأن القذف لا يتعلق بالشرط ، ولا يجوز أن تصير زانية بوطئه لها ، كما لا تصير زانية بطلوع الشمس .

                                                                                                                                            وإن قال : إن وطئتك ، فلله علي صوم هذا الشهر . لم يكن موليا ; لأنه لو وطئها بعد مضيه ، لم يلزمه حق ، فإن صوم هذا الشهر لا يتصور بعد مضيه ، فلا يلزم بالنذر ، كما لو قال : إن وطئتك ، فلله علي صوم أمس . وإن قال : إن وطئتك ، فلله علي أن أصلي عشرين ركعة . كان موليا . وقال أبو حنيفة : لا يكون موليا ; لأن الصلاة لا يتعلق بها مال ، ولا تتعلق بمال ، فلا يكون الحالف بها موليا ، كما لو قال : إن وطئتك ، فلله علي أن أمشي في السوق . ولنا ، أن الصلاة تجب بالنذر ، فكان الحالف بها موليا ، كالصوم والحج ، وما ذكره لا يصح ; فإن الصلاة تحتاج إلى الماء والسترة .

                                                                                                                                            وأما المشي في السوق ، فقياس المذهب على هذه الرواية ، أنه يكون موليا ; لأنه يلزمه بالحنث في هذا النذر أحد شيئين ; : إما الكفارة ، وإما المشي ، فقد صار الحنث موجبا لحق عليه ، فعلى هذا يكون موليا بنذر فعل المباحات والمعاصي أيضا ، فإن نذر المعصية موجب للكفارة في ظاهر المذهب ، وإن سلمنا ، فالفرق بينهما أن المشي لا يجب بالنذر ، بخلاف مسألتنا . وإذا استثنى في يمينه ، لم يكن موليا في قول الجميع ; لأنه لا يلزمه كفارة بالحنث ، فلم يكن الحنث موجبا لحق عليه . وهذا إذا كانت اليمين بالله تعالى ، أو كانت يمينا مكفرة ، فأما الطلاق والعتاق ، فمن جعل الاستثناء فيهما غير مؤثر ، فوجوده كعدمه ، ويكون موليا بهما ، سواء استثنى أو لم يستثن .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية