الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 402 ] [ ص: 403 ] باب الجعل والإجارة ، من الجامع من كتاب الصداق وكتاب النكاح ، من أحكام القرآن ، ومن كتاب النكاح القديم

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " وإذا أنكح صلى الله عليه وسلم بالقرآن ، فلو نكحها على أن يعلمها قرآنا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال يجوز أن يتزوجها على تعليم القرآن ، فيكون تعليم القرآن مهرا لها .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ومالك : لا يجوز .

                                                                                                                                            استدلالا بقول الله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين [ النساء : 24 ] وليس تعليم القرآن مالا فلم يصح ابتغاء النكاح به .

                                                                                                                                            وما روي عن أبي بن كعب أنه قال : لقنت رجلا من أهل الصفة قرآنا ، فأعطاني قوسا ، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : أتحب أن يقوسك الله بقوس من نار ؟ قلت : لا ، قال : فاردده ، فلو جاز أخذ العوض عليه لما توعده عليه ، فدل تحريمه أن يأخذ عليه عوضا على تحريم أن يكون في نفسه عوضا .

                                                                                                                                            ولأن كل ما لم يكن مالا ولا في مقابلته مال ، لم يجز أن يكون مهرا ؛ قياسا على طلاق ضرتها ، وعتق أمته .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن تعليم القرآن قربة ، فلم يجز أن يكون مهرا كالصلاة والصوم ، ولأن تعليم القرآن فرض ، فلم يجز أخذ العوض عليه كسائر الفروض .

                                                                                                                                            ودليلنا : ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي : أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، قد وهبت نفسي لك ، وقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، إن لم يكن بك إليها حاجة فزوجنيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل عندك شيء تصدقها ؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخذته منك عريت ، وإن تشقه عريت ، فالتمس شيئا ولو خاتما من حديد ، فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل معك من القرآن شيء ؟ قال : نعم سورة كذا وسورة كذا ، فقال رسول [ ص: 404 ] الله صلى الله عليه وسلم : قد زوجتكها بما معك من القرآن . وهذا نص .

                                                                                                                                            وروى عطاء ، عن أبي هريرة : أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرضت نفسها عليه فقال : اجلسي بارك الله فيك ، ثم دعا رجلا ، فقال : إني أريد أن أزوجكها إن رضيت ، فقال : ما رضيت لي يا رسول الله فقد رضيت ، فقال : هل عندك من شيء ؟ فقال : لا والله ، فقال : ما تحفظ من القرآن ؛ فقال : سورة البقرة والتي تليها ، فقال : قم فعلمها عشرين آية ، وهي امرأتك .

                                                                                                                                            فإن قيل : وهو تأويل أبي جعفر الطحاوي معنى قوله : " قد زوجتكها بما معك من القرآن " ، أي لأجل فضيلتك بما معك من القرآن . قيل عن هذا جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : التمس ولو خاتما من حديد ؛ ليكون صداقا ، فلما لم يجد جعل القرآن بدلا منه ، فاقتضى أن يكون صداقا .

                                                                                                                                            والثاني : أن هذا التأويل يدفعه حديث أبي هريرة ؛ لأنه قال : قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك .

                                                                                                                                            فإن قالوا - وهو تأويل مكحول - أن هذا خاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل عنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتزوج بها ، فيصير مخصوصا بذلك ، وإنما كان مزوجا لها ، فلم يكن مخصوصا .

                                                                                                                                            والثاني : أن ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى دليل يدل على تخصيصه ، وإلا كان فيه مشاركا لأمته .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقوله : " قد زوجتكها بما معك من القرآن " مجهول ، وكذلك قوله في حديث أبي هريرة : " قم فعلمها عشرين آية " هي مجهولة ، ولا يجوز أن يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم صداقا مجهولا ، قيل عنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه كان معلوما ؛ لأنه سأل الرجل عما معه من القرآن ، فذكر سورا سماها فقال : زوجتكها بما معك من القرآن ، يعني السور المسماة ، وقوله في حديث أبي هريرة : " عشرين آية " يعني من السورة التي ذكرها ، وذلك يقتضي في الظاهر أن يكون من أولها ، فصار الصداق معلوما .

                                                                                                                                            والثاني : أن المقصود بهذا النقل جواز أن يكون تعليم القرآن صداقا ، فاقتصر من الرواية على ما دل عليه ، وأمسك عن نقل ما عرف دليله من غيره .

                                                                                                                                            [ ص: 405 ] ويدل عليه من طريق القياس أن كل منفعة صح أن يبذلها الغير عن الغير تبرعا جاز أن يبذلها مهرا ، قياسا على سائر الأعمال المباحة ، ولا يدخل عليه عسيب الفحل ؛ لأن المقصود منه الماء ، وهو عين وليست بمنفعة .

                                                                                                                                            فأما الاستدلال بالآية : فنحن نقول بنطقها ، وهم لا يقولون بدليلها ، ونحن وإن قلنا بدليل الخطاب ، فقد نقلنا عنه نطق دليل آخر ، وأما الخبر فقد روي عن أبي بن كعب تارة ، وعن عبادة بن الصامت أخرى . وحديث عبادة أثبت ، وأيهما صح فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه يجوز أن يكون تعليمه للقرآن قد تعين عليه فرضه ، فلم يجز أن يعتاض عنه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أخذه من غير شرط ، فلم يستحقه .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على طلاق امرأته وعتق أمته : فالمعنى فيه أنه لا ينتفع بالطلاق والعتق ، فلم يجز أن يكون صداقا ، وينتفع بتعليم القرآن ، فجاز أن يكون صداقا .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهي تنتفع بطلاق زوجته ، أو عتق أمته ؛ لأنه ينفرد بها .

                                                                                                                                            قيل : ما تستحقه من النفقة والكسوة مع الضرة والأمة مثل ما تستحقه منفردة ، فلم يعد عليها منه نفع .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الصلاة والصيام بعلة أنه قربة ، فمنتقض بكتب المصاحف وبناء المساجد يجوز أن يكون مهرا ، وإن كان قربة .

                                                                                                                                            ثم المعنى في الصلاة والصيام أن النيابة فيهما لا تصح ، وأن نفعهما لا يعود على غير فاعليهما ، وليس كتعليم القرآن الذي يصح فيه النيابة ، ويعود نفعه على غير فاعله .

                                                                                                                                            وأما قولهم أنه فرض فلم يجز أخذ العوض عنه ، فهو أنه إن كان فرضا ، فهو من فروض الكفايات ، ويجوز أنتؤخذ الأجرة فيما كان من فروض الكفايات ، كغسل الموتى ، وحمل الجنائز ، وحفر القبور .

                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر أن تعليم القرآن يجوز أن يكون صداقا فلا بد أن يكون ما أصدقها منه معلوما تنتفي عنه الجهالة ؛ لأن الصداق المجهول لا يصح .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية