الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال

                                                                                                                169 حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أراني ليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال له لمة كأحسن ما أنت راء من اللمم قد رجلها فهي تقطر ماء متكئا على رجلين أو على عواتق رجلين يطوف بالبيت فسألت من هذا فقيل هذا المسيح ابن مريم ثم إذا أنا برجل جعد قطط أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية فسألت من هذا فقيل هذا المسيح الدجال

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أراني ليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال ، له لمة كأحسن ما أنت راء من اللمم ، قد رجلها فهي تقطر ماء ، متكئا على رجلين أو على عواتق رجلين ، يطوف بالبيت . فسألت من هذا ؟ فقيل : هذا المسيح ابن مريم ثم إذا أنا برجل جعد قطط أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية فسألت من هذا ؟ فقيل : هذا المسيح الدجال ) أما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أراني ) فهو بفتح الهمزة . وأما الكعبة فسميت كعبة لارتفاعها وتربعها ، وكل بيت مربع عند العرب فهو كعبة .

                                                                                                                [ ص: 375 ] وقيل : سميت كعبة لاستدارتها وعلوها ومنه كعب الرجل ، ومنه كعب ثدي المرأة إذا علا ، واستدار .

                                                                                                                وأما ( اللمة ) فهي بكسر اللام وتشديد الميم وجمعها لمم كقربة وقرب قال الجوهري : ويجمع على ( لمام ) يعني بكسر اللام وهو الشعر المتدلي الذي جاوز شحمة الأذنين فإذا بلغ المنكبين فهو ( جمة ) .

                                                                                                                وأما ( رجلها ) فهو بتشديد الجيم ومعناه سرحها بمشط مع ماء أو غيره وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يقطر ماء ) فقد قال القاضي عياض يحتمل أن يكون على ظاهره أي يقطر بالماء الذي رجلها به لقرب ترجيله وإلى هذا نحا القاضي الباجي . قال القاضي عياض : ومعناه عندي أن يكون ذلك عبارة عن نضارته وحسنه ، واستعارة لجماله .

                                                                                                                وأما ( العواتق ) فجمع عاتق . قال أهل اللغة . هو ما بين المنكب والعنق .

                                                                                                                وفيه لغتان التذكير والتأنيث والتذكير أفصح وأشهر . قال صاحب المحكم : ويجمع العاتق على عواتق كما ذكرنا وعلى عتق وعتق بإسكان التاء وضمها .

                                                                                                                وأما طواف عيسى - عليه السلام - فقال القاضي عياض - رحمه الله - : إن كانت هذه رؤيا عين فعيسى حي لم يمت يعني فلا امتناع في طوافه حقيقة ، وإن كان مناما كما نبه عليه ابن عمر - رضي الله عنهما - في روايته فهو محتمل لما تقدم ، ولتأويل الرؤيا . قال القاضي : وعلى هذا يحمل ما ذكر من طواف الدجال بالبيت ، وأن ذلك رؤيا إذ قد ورد في الصحيح أنه لا يدخل مكة ولا المدينة مع أنه لم يذكر في رواية مالك طواف الدجال . وقد يقال . إن تحريم دخول المدينة عليه إنما هو في زمن فتنته . والله أعلم .

                                                                                                                وأما ( المسيح ) فهو صفة لعيسى - صلى الله عليه وسلم - ، وصفة للدجال . فأما عيسى فاختلف العلماء في سبب [ ص: 376 ] تسميته مسيحا قال الواحدي : ذهب أبو عبيد والليث إلى أن أصله بالعبرانية مشيحا فعربته العرب ، وغيرت لفظه ، كما قالوا : موسى وأصله موشى أو ميشا بالعبرانية . فلما عربوه غيروه فعلى هذا لا اشتقاق له . قال : وذهب أكثر العلماء إلى مشتق وكذا قال غيره : إنه مشتق على قول الجمهور ثم اختلف هؤلاء فحكي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : لأنه لم يمسح ذا عاهة إلا برئ . وقال إبراهيم وابن الأعرابي : المسيح الصديق . وقيل : لكونه ممسوح أسفل القدمين لا أخمص له ، وقيل : لمسح زكريا إياه ، وقيل : لمسحه الأرض أي قطعها ، وقيل : لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن ، وقيل : لأنه مسح بالبركة حين ولد ، وقيل : لأن الله تعالى مسحه أي خلقه خلقا حسنا وقيل غير ذلك . والله أعلم .

                                                                                                                وأما ( الدجال ) فقيل : سمي بذلك لأنه ممسوح العين ، وقيل : لأنه أعور والأعور يسمى مسيحا ، وقيل : لمسحه الأرض حين خروجه ، وقيل غير ذلك . قال القاضي : ولا خلاف عند أحد من الرواة في اسم عيسى أنه بفتح الميم وكسر السين مخففة واختلف في الدجال فأكثرهم يقوله مثله ، ولا فرق بينهما في اللفظ ، ولكن عيسى - صلى الله عليه وسلم - مسيح هدى ، والدجال مسيح ضلالة . ورواه بعض الرواة ( مسيح ) بكسر الميم والسين المشددة ، وقاله غير واحد كذلك إلا أنه بالخاء المعجمة ، وقاله بعضهم بكسر الميم وتخفيف السين . والله أعلم .

                                                                                                                وأما تسمية الدجال فقد تقدم بيانها في شرح المقدمة .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الدجال : ( جعد قطط ) فهو بفتح القاف والطاء هذا هو المشهور قال القاضي عياض : رويناه بفتح الطاء الأولى وبكسرها . قال : وهو شديد الجعودة وقال الهروي : الجعد في صفات الرجال يكون مدحا ويكون ذما فإذا كان ذما فله معنيان أحدهما القصير المتردد ، والآخر البخيل . يقال : رجل جعد اليدين ، وجعد الأصابع أي بخيل . وإذا كان مدحا فله أيضا معنيان أحدهما أن يكون معناه شديد الخلق ، والآخر يكون شعره جعدا غير سبط فيكون مدحا لأن السبوطة أكثرها في شعور العجم . قال القاضي : قال غير الهروي : الجعد في صفة الدجال ذم ، وفي صفة عيسى عليه السلام مدح والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية ) فروي بالهمز وبغير همز فمن همز معناه ذهب ضوءها ، ومن لم يهمز معناه ناتئة بارزة . ثم إنه جاء هنا ( أعور العين اليمنى ) ، وجاء في [ ص: 377 ] رواية أخرى ( أعور العين اليسرى ) وقد ذكرهما جميعا مسلم في آخر الكتاب وكلاهما صحيح . قال القاضي عياض - رحمه الله - روينا هذا الحرف عن أكثر شيوخنا بغير همز وهو الذي صححه أكثرهم قال : وهو الذي ذهب إليه الأخفش ومعناه ناتئة كنتوء حبة العنب من بين صواحبها . قال : وضبطه بعض شيوخنا بالهمز ، وأنكره بعضهم ، ولا وجه لإنكاره . وقد وصف في الحديث بأنه ممسوح العين ، وأنها ليست جحراء ولا ناتئة بل مطموسة ، وهذه صفة حبة العنب إذا سال ماؤها ، وهذا يصحح رواية الهمز .

                                                                                                                وأما ما جاء في الأحاديث الأخر ( جاحظ العين وكأنها كوكب ) وفي رواية : ( لها حدقة جاحظة كأنها نخاعة في حائط ) فتصحح رواية ترك الهمزة ولكن يجمع بين الأحاديث وتصحح الروايات جميعا بأن يكون المطموسة والممسوحة والتي ليست بجحراء ولا ناتئة هي العوراء الطافئة بالهمز وهي العين اليمنى كما جاء هنا ، وتكون الجاحظة والتي كأنها كوكب ، وكأنها نخاعة هي الطافية بغير همز ، وهي العين اليسرى كما جاء في الرواية الأخرى وهذا جمع بين الأحاديث والروايات في الطافية بالهمز وبتركه وأعور العين اليمنى واليسرى لأن كل واحدة منهما عوراء فإن الأعور من كل شيء المعيب لا سيما ما يختص بالعين وكلا عيني الدجال معيبة عوراء إحداهما بذهابها والأخرى بعيبها هذا آخر كلام القاضي وهو في نهاية من الحسن . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية