الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            أبواب اجتناب النجاسات ومواضع الصلوات

                                                                                                                                            باب اجتناب النجاسة في الصلاة والعفو عما لا يعلم بها

                                                                                                                                            594 - ( عن جابر بن سمرة قال : سمعت رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم { أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي ؟ قال : نعم ، إلا أن ترى فيه شيئا فتغسله } . رواه أحمد وابن [ ص: 139 ] ماجه ) .

                                                                                                                                            595 - ( وعن معاوية قال : { قلت لأم حبيبة : هل كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم في الثوب الذي يجامع فيه ؟ قالت : نعم ، إذا لم يكن فيه أذى } . رواه الخمسة إلا الترمذي ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث جابر بن سمرة رجال إسناده عند ابن ماجه ثقات ، وحديث معاوية رجال إسناده كلهم ثقات . والحديثان يدلان على تجنب المصلي للثوب المتنجس . وهل طهارة ثوب المصلي شرط لصحة الصلاة أم لا ؟ فذهب الأكثر إلى أنها شرط .

                                                                                                                                            وروي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وهو مروي عن مالك أنها ليست بواجبة ، ونقل صاحب النهاية عن مالك قولين .

                                                                                                                                            أحدهما إزالة النجاسة سنة وليست بفرض . وثانيهما أنها فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان وقديم قولي الشافعي أن إزالة النجاسة غير شرط . احتج الجمهور بحجج منها . قول الله تعالى : { وثيابك فطهر } قال في البحر : والمراد للصلاة للإجماع على أن لا وجوب في غيرها ولا يخفاك أن غاية ما يستفاد من الآية الوجوب عند من جعل الأمر حقيقة فيه ، والوجوب لا يستلزم الشرطية لأن كون الشيء شرطا حكم شرعي وضعي لا يثبت إلا بتصريح الشارع بأنه شرط ، أو بتعليق الفعل به بأداة الشرط ، أو بنفي الفعل بدونه نفيا متوجها إلى الصحة لا إلى الكمال أو بنفي الثمرة ولا يثبت بمجرد الأمر به .

                                                                                                                                            وقد أجاب صاحب ضوء النهار عن الاستدلال بالآية بأنها مطلقة ، وقد حملها القائلون بالشرطية على الندب في الجملة فأين دليل الوجوب في المقيد وهو الصلاة ؟ وفيه أنهم لم يحملوها على الندب بل صرحوا بأنها مقتضية للوجوب في الجملة ، لكنه قام الإجماع على عدم الوجوب في غير الصلاة فكان صارفا عن اقتضاء الوجوب فيما عدا المقيد . ومنها حديث خلع النعل الذي سيأتي ، وغاية ما فيه الأمر بمسح النعل ، وقد عرفت أنه لا يفيد الشرطية على أنه بني على ما كان قد صلى قبل الخلع ، ولو كانت طهارة الثياب ونحوها شرطا لوجب عليه الاستئناف ، لأن الشرط يؤثر عدمه في عدم المشروط كما تقرر في الأصول فهو عليهم لا لهم . ومنها الحديثان المذكوران في الباب . ويجاب عنهما بأن الثاني فعل وهو لا يدل على الوجوب فضلا عن الشرطية ، والأول ليس فيه ما يدل على الوجوب .

                                                                                                                                            سلمنا أن قوله فتغسله خبر في معنى الأمر فهو غير صالح للاستدلال به على المطلوب . ومنها حديث عائشة قالت : { كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه : فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الكساء فلبسه ثم خرج فصلى فيه الغداة ثم جلس فقال رجل : يا رسول الله هذه لمعة من دم في الكساء فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها مع ما يليها وأرسلها [ ص: 140 ] إلي مصرورة في يد الغلام فقال : اغسلي هذه وأجفيها ثم أرسلي بها إلي فدعوت بقصعتي فغسلتها ثم أجفيتها ثم أخرجتها فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه } أخرجه أبو داود . ويجاب عنه أولا بأنه غريب كما قال المنذري . وثانيا بأن غاية ما فيه الأمر وهو يدل على الشرطية . وثالثا بأنه عليهم لا لهم ، لأنه لم ينقل إلينا أنه أعاد الصلاة التي صلاها في ذلك الثوب .

                                                                                                                                            ومنها حديث عمار بلفظ : { إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني } رواه أبو يعلى والبزار في مسنديهما وابن عدي في الكامل والدارقطني والبيهقي في سننهما والعقيلي في الضعفاء وأبو نعيم في المعرفة والطبراني في الكبير والأوسط . ويجاب عنه أولا بأن هؤلاء كلهم ضعفوه وضعفه غيرهم من أهل الحديث لأن في إسناده ثابت بن حماد وهو متروك ومتهم بالوضع ، وعلي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف حتى قال البيهقي في سننه : حديث باطل لا أصل له . وثانيا بأنه لا يدل على المطلوب وليس فيه إلا أنه يغسل الثوب من هذه الأشياء لا من غيرها . ومنها حديث غسل المني وفركه في الصحيحين وغيرهما كما تقدم وهو لا يدل على الوجوب فكيف يدل على الشرطية .

                                                                                                                                            ومنها حديث { حتيه ثم اقرصيه } عند البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أسماء وفي لفظ " فلتقرصه ثم لتنضحه " من حديث عائشة وفي لفظ " حكيه بضلع " من حديث أم قيس بنت محصن ويجاب عن ذلك أولا بأن الدليل أخص من الدعوى . وثانيا بأن غاية ما فيه الدلالة على الوجوب . ومنها أحاديث الأمر بغسل النجاسة كحديث تعذيب من لم يستنزه من البول ، وحديث الأمر بغسل المذي وغيرهما ، وقد تقدمت في أول هذا الكتاب .

                                                                                                                                            ويجاب عنها بأنها أوامر وهي لا تدل على الشرطية التي هي محل النزاع كما تقدم ، نعم يمكن الاستدلال بالأوامر المذكورة في هذا الباب على الشرطية إن قلنا : إن الأمر بالشيء نهي عن ضده وإن النهي يدل على الفساد وفي كلا المسألتين خلاف مشهور في الأصول لولا أن ههنا مانعا من الاستدلال بها على الشرطية وهو عدم إعادته صلى الله عليه وسلم للصلاة التي خلع فيها نعليه لأن بناءه على ما فعله من الصلاة قبل الخلع مشعر بأن الطهارة غير شرط ، وكذلك عدم نقل إعادته للصلاة التي صلاها في الكساء الذي فيه لمعة من دم كما تقدم . ومن أدلتهم على الشرطية حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ : { تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم } أخرجه الدارقطني والعقيلي في الضعفاء وابن عدي في الكامل . وهذا الحديث لو صح لكان صالحا للاستدلال به على الشرطية المدعاة لكنه غير صحيح بل باطل لأن في إسناده روح بن غطيف ، وقال ابن عدي وغيره : إنه تفرد به وهو ضعيف قال الذهلي : أخاف أن يكون هذا موضوعا .

                                                                                                                                            وقال البخاري : حديث باطل . وقال ابن حبان : موضوع وقال البزار : أجمع أهل العلم على نكرة هذا الحديث . قال الحافظ : وقد أخرجه ابن عدي في الكامل [ ص: 141 ] من طريق أخرى عن الزهري ، لكن فيها أبو عصمة وقد اتهم بالكذب انتهى . إذا تقرر لك ما سقناه من الأدلة وما فيها فاعلم أنها لا تقصر عن إفادة وجوب تطهير الثياب ، فمن صلى وعلى ثوبه نجاسة كان تاركا لواجب ، وأما أن صلاته باطلة كما هو شأن فقدان شرط الصحة فلا لما عرفت . ومن فوائد حديثي الباب أنه لا يجب العمل بمقتضى المظنة لأن الثوب الذي يجامع فيه مظنة لوقوع النجاسة فيه ، فأرشد الشارع صلى الله عليه وسلم إلى أن الواجب العمل بالمئنة دون المظنة . ومن فوائدهما كما قال ابن رسلان في شرح السنن : طهارة رطوبة فرج المرأة ، لأنه لم يذكر هنا أنه كان يغسل ثوبه من الجماع قبل أن يصلي لو غسله لنقل .

                                                                                                                                            ومن المعلوم أن الذكر يخرج وعليه رطوبة من فرج المرأة انتهى .

                                                                                                                                            596 - ( وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم فلما انصرف قال لهم : لم خلعتم قالوا : رأيناك خلعت فخلعنا ، فقال : إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا ، فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما ، فإن رأى فليمسحه بالأرض ، ثم ليصل فيهما } . رواه أحمد وأبو داود ) . الحديث أخرجه أيضا الحاكم وابن خزيمة وابن حبان ، واختلف في وصله وإرساله ، ورجح أبو حاتم في العلل الموصول ، ورواه الحاكم من حديث أنس وابن مسعود ، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس وعبد الله بن الشخير وإسناداهما ضعيفان ، ورواه البزار من حديث أبي هريرة وإسناده ضعيف معلول أيضا ، قاله الحافظ في التلخيص .

                                                                                                                                            قوله ( فأخبرني ) فيه جواز تكليم المصلي وإعلامه بما يتعلق بمصالح الصلاة وأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .

                                                                                                                                            قوله : ( خبثا ) في رواية أبي داود وهو ما تكرهه الطبيعة من نجاسة ومخاط ومني وغير ذلك . والحديث قد عرفت مما سلف أنه استدل به القائلون بأن إزالة النجاسة من شروط صحة الصلاة وهو كما عرفناك عليهم لا لهم ، لأن استمراره على الصلاة التي صلاها قبل خلع النعل وعدم استئنافه لها يدل على عدم كون الطهارة شرطا . وأجاب الجمهور عن هذا بأن المراد هو الشيء المستقذر كالمخاط والبصاق ونحوهما ولا يلزم من أن يكون نجسا ، وبأنه يمكن أن يكون دما يسيرا معفوا عنه وإخبار جبريل له بذلك لئلا تتلوث ثيابه بشيء مستقذر . ويرد هذا الجواب بما قاله في البارع في تفسير قوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } أنه كنى بالغائط عن القذر .

                                                                                                                                            وقول الأزهري : النجس : الخارج من بدن الإنسان فجعله المستقذر غير نجس أو نجس معفو عنه تحكم . وإخبار جبريل في حال الصلاة الظاهر أنه لما فيه من النجاسة [ ص: 142 ] التي تجنبها في الصلاة لا لمخافة التلوث لأنه لو كان لذلك لأخبره قبل الدخول في الصلاة لأن القعود حال لبسها مظنة للتلوث بما فيها على أن هذا الجواب لا يمكن مثله في رواية الخبث المذكورة في الباب للاتفاق بين أئمة اللغة وغيرهم أن الأخبثين هما البول والغائط . قال المصنف رحمه الله تعالىبعد أن ساق الحديث ما لفظه : وفيه أن دلك النعال يجزئ ، وأن الأصل أن أمته أسوته في الأحكام ، وأن الصلاة في النعلين لا تكره ، وأن العمل اليسير معفو عنه انتهى . وقد تقدم الكلام على أن ذلك النعال مطهر لها في أبواب تطهير النجاسة .

                                                                                                                                            وأما أن أمته أسوته فهو الحق وفيه خلاف في الأصل مشهور وأما عدم كراهة الصلاة في النعلين فسيأتي . وأما العفو عن العمل اليسير فسيأتي أيضا . ومن فوائد الحديث جواز المشي إلى المسجد بالنعل .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية