الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر بعض سيرة عثمان

قال الحسن البصري : دخلت المسجد ، فإذا أنا بعثمان متكئا على ردائه ، فأتاه سقاءان يختصمان إليه ، فقضى بينهما . وقال الشعبي : لم يمت عمر بن الخطاب حتى ملته قريش وقد كان حصرهم بالمدينة ، وقال : أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد ، فإن كان الرجل منهم ليستأذنه في الغزو فيقول : قد كان لك في غزوك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يبلغك ، وخير لك من غزوك اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك . وكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش ولم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة . فلما ولي عثمان خلى عنهم فانتشروا في البلاد وانقطع إليهم الناس ، وكان أحب إليهم من عمر . قيل : وحج عثمان بالناس سنوات خلافته كلها ، وحج بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كان يصنع عمر . وكتب إلى الأمصار أن يوافيه العمال في الموسم ومن يشكو منهم ، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ، وأنه مع الضعيف على القوي ما دام مظلوما .

وقيل : كان أول منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا طيران الحمام والرمي على [ ص: 547 ] الجلاهقات ، وهي قوس البندق ، واستعمل عليها عثمان رجلا من بني ليث سنة ثمان من خلافته ، فقص الطيور وكسر الجلاهقات .

قيل : وسأل رجل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة ما دعاه إلى الخروج على عثمان ، فقال : كان يتيما في حجر عثمان ، وكان والي أيتام أهل بيته ومحتملا كلهم ، فسأل عثمان العمل ، فقال : يا بني لو كنت رضا لاستعملتك . قال فأذن لي فأخرج فأطلب الرزق . قال : اذهب حيث شئت ، وجهزه من عنده وحمله وأعطاه ، فلما وقع إلى مصر كان فيمن أعان عليه حين منعه الإمارة . قال : وعمار بن ياسر ؟ قال : كان بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام فضربهما عثمان فأورث ذلك تعاديا بين أهل عمار وأهل عباس ، وكانا تقاذفا .

قيل : سئل سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر ما دعاه إلى ركوب عثمان . قال : الغضب والطمع ، كان من الإسلام بمكان فغره أقوام فطمع ، وكانت له دالة فلزمه حق ، فأخذه عثمان من ظهره ، فاجتمع هذا إلى ذلك فصار مذمما بعد أن كان محمدا . قيل : واستخف رجل بالعباس بن عبد المطلب فضربه عثمان فاستحسن منه ذلك ، فقال : أيفخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه وأرخص في الاستخفاف به ! لقد خالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك ورضي به . قيل : وكان كعب بن ذي الحبكة النهدي يلعب بالنارنجيات ، فبلغ عثمان ، فكتب إلى الوليد أن يوجعه ضربا ، فعزره وأخبر الناس خبره ، وقرأ عليهم كتاب عثمان ، وفيه : إنه قد جد بكم فجدوا وإياكم والهزل . فغضب كعب وكان في الذين خرجوا عليه ، وكان سيره إلى دنباوند ، فقال في ذلك للوليد :


لعمري لئن طردتني ما إلى التي طمعت بها من سقطتي لسبيل     رجوت رجوعي يا ابن أروى ورجعتي
إلى الحق دهرا ، غال ذلك غول     فإن اغترابي في البلاد وجفوتي
وشتمي في ذات الإله قليل

[ ص: 548 ]     وإن دعائي كل يوم وليلة
عليك بدنباوندكم لطويل



قال : وأما ضابئ بن الحرث البرجمي فإنه استعار في زمن الوليد بن عقبة من قوم من الأنصار كلبا يدعى قرحان يصيد الظباء فحبسه عنهم ، فانتزعه الأنصاريون منه قهرا ، فهجاهم وقال :


تجشم دوني وفد قرحان خطة     تضل لها الوجناء وهي حسير
فباتوا شباعا طاعمين كأنما     حباهم ببيت المرزبان أمير
فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم     فإن عقوق الأمهات كبير



فاستعدوا عليه عثمان ، فعزره وحبسه ، فما زال في السجن حتى مات فيه .

وقال في الفتك معتذرا إلى أصحابه :


هممت ولم أفعل وكدت وليتني     تركت على عثمان تبكي حلائله
وقائلة قد مات في السجن ضابئ     ألا من لخصم لم يجد من يجادله



فلذلك صار ابنه عمير سبئيا . قال : وأما كميل بن زياد وعمير بن ضابئ فإنهما سارا إلى المدينة لقتل عثمان ، فأما عمير فإنه نكل عنه ، وأما كميل فإنه جسر وثاوره ، فوجأ عثمان وجهه فوقع على استه فقال : أوجعتني يا أمير المؤمنين ! فقال : أولست بفاتك ؟ قال : لا والله . فقال عثمان : فاستقد مني ، وقال : دونك . فعفا عنه ، وبقيا إلى أيام الحجاج فقتلهما ، وسيرد ذكر ذلك - إن شاء الله تعالى - .

قيل : وكان لعثمان على طلحة بن عبيد الله خمسون ألفا ، فقال له يوما : قد تهيأ [ ص: 549 ] مالك فاقبضه . قال : هو لك معونة على مروءتك . قيل : فلما حصر عثمان قال علي لطلحة : أنشدك الله ألا رددت الناس عن عثمان ! قال : لا والله حتى تعطيني بنو أمية الحق من أنفسها .

وكان عثمان يلقب ذا النورين لأنه جمع بين ابنتي النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قال الأصمعي : استعمل عبد الله بن عامر قطن بن عبد عوف على كرمان ، فأقبل جيش للمسلمين فمنعهم سيل في واد من العبور ، وخشي قطن الفوت فقال : من عبر له ألف درهم . فحملوا أنفسهم وعبروا ، وكانوا أربعة آلاف ، فأعطاهم أربعة آلاف ألف درهم ، فأبى ابن عامر أن يجري ذلك له وكتب إلى عثمان ، فكتب عثمان : أن احبسها له فإنه إنما أعان بها في سبيل الله ، فلذلك سميت الجوائز لإجازة الوادي .

وقال حسان بن زيد : سمعت عليا وهو يخطب الناس ويقول بأعلى صوته : يا أيها الناس إنكم تكثرون في وفي عثمان ، فإن مثلي ومثله كما قال الله تعالى : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ) . وقال أبو حميد الساعدي - وهو بدري وكان مجانبا لعثمان - فلما قتل عثمان قال : والله ما أردنا قتله ، اللهم لك علي أن لا أفعل كذا وكذا ولا أضحك حتى ألقاك .

التالي السابق


الخدمات العلمية