الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا .

لما ذكر حال طائفة المؤمنين ، تخلص منه لذكر حال طائفة المنافقين ، كما علم من المقابلة ، ومن قوله يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ، ومن ترك وصفها بمنكم كما وصف الأولى .

وطائفة مبتدأ وصف بجملة قد أهمتهم أنفسهم . وخبره جملة يظنون بالله غير الحق والجملة من قوله وطائفة قد أهمتهم إلى قوله والله عليم بذات الصدور اعتراض بين جملة ثم أنزل عليكم الآية . وجملة إن الذين تولوا منكم الآية .

ومعنى أهمتهم أنفسهم أي حدثتهم أنفسهم بما يدخل عليهم الهم وذلك بعدم رضاهم بقدر الله ، وبشدة تلهفهم على ما أصابهم وتحسرهم على ما فاتهم مما يظنونه منجيا لهم لو عملوه : أي من الندم على ما فات ، وإذ كانوا كذلك كانت نفوسهم في اضطراب يمنعهم من الاطمئنان ومن المنام ، وهذا كقوله الآتي ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . وقيل معنى أهمتهم أدخلت عليهم الهم بالكفر والارتداد ، وكان رأس هذه الطائفة معتب بن قشير .

وجملة يظنون بالله غير الحق إما استئناف بياني نشأ عن قوله قد أهمتهم أنفسهم وإما حال من طائفة . ومعنى يظنون بالله غير الحق أنهم [ ص: 135 ] ذهبت بهم هواجسهم إلى أن يظنوا بالله ظنونا باطلة من أوهام الجاهلية . وفي هذا تعريض بأنهم لم يزالوا على جاهليتهم لم يخلصوا الدين لله ، وقد بين بعض ما لهم من الظن بقوله يقولون هل لنا من الأمر من شيء و ( هل ) للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي ، بقرينة زيادة من قبل النكرة ، وهي من خصائص النفي ، وهو تبرئة لأنفسهم من أن يكونوا سببا في مقابلة العدو . حتى نشأ عنه ما نشأ ، وتعريض بأن الخروج للقتال يوم أحد خطأ وغرور ، ويظنون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس برسول إذ لو كان لكان مؤيدا بالنصر .

والقول في هل لنا من الأمر من شيء كالقول في ليس لك من الأمر شيء المتقدم آنفا . والمراد بالأمر هنا شأن الخروج إلى القتال . والأمر بمعنى السيادة الذي منه الإمارة ، ومنه أولو الأمر .

وجملة يقولون هل لنا من الأمر من شيء بدل اشتمال من جملة يظنون لأن ظن الجاهلية يشتمل على معنى هذا القول . ومعنى لو كان لنا من الأمر شيء أي من شأن الخروج إلى القتال ، أو من تدبير الناس شيء ، أي رأي ما قتلنا هاهنا ، أي ما قتل قومنا . وليس المراد انتفاء القتل مع الخروج إلى القتال في أحد ، بل المراد انتفاء الخروج إلى أحد الذي كان سببا في قتل من قتل ، كما تدل عليه قرينة الإشارة بقوله هاهنا

فالكلام كناية . وهذا القول قاله عبد الله بن أبي ابن سلول لما أخبروه بمن استشهد من الخزرج يومئذ ، وهذا تنصل من أسباب الحرب وتعريض بالنبيء ومن أشار بالخروج من المؤمنين الذين رغبوا في إحدى الحسنيين .

وإنما كان هذا الظن غير الحق لأنه تخليط في معرفة صفات الله وصفات رسوله وما يجوز وما يستحيل ، فإن لله أمرا وهديا وله قدر وتيسير ، وكذلك لرسوله الدعوة والتشريع وبذل الجهد في تأييد الدين وهو في ذلك معصوم ، وليس معصوما من جريان الأسباب الدنيوية عليه ، ومن أن يكون الحرب بينه وبين عدوه سجالا ، قال أبو سفيان لهرقل وقد سأله : كيف كان قتالكم له ؟ [ ص: 136 ] فقال له أبو سفيان : ينال منا وننال منه ، فقال هرقل : وكذلك الإيمان حتى يتم . فظنهم ذلك ليس بحق .

وقد بين الله تعالى أنه ظن الجاهلية الذين لم يعرفوا الإيمان أصلا فهؤلاء المتظاهرون بالإيمان لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقيت معارفهم كما هي من عهد الجاهلية .

والجاهلية صفة جرت على موصوف محذوف يقدر بالفئة أو الجماعة ، وربما أريد به حالة الجاهلية في قولهم أهل الجاهلية ، وقوله تعالى تبرج الجاهلية الأولى ، والظاهر أنه نسبة إلى الجاهل أي الذي لا يعلم الدين والتوحيد ، فإن العرب أطلقت الجهل على ما قابل الحلم ، قال ابن الرومي :


بجهل كجهل السيف والسيف منتضى وحلم كحلم السيف والسيف مغمد

وأطلقت الجهل على عدم العلم قال السموأل :


فليس سواء عالم وجهول

وقال النابغة :


وليس جاهل شيء مثل من علما

وأحسب أن لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن ، وصف به أهل الشرك تنفيرا من الجهل ، وترغيبا في العلم ، ولذلك يذكره القرآن في مقامات الذم في نحو قوله أفحكم الجاهلية يبغون ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية . وقال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأسا دهاقا ، وفي حديث حكيم بن حزام : أنه سأل النبيء - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء كان يتحنث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم ، وقالوا : شعر الجاهلية ، وأيام الجاهلية . ولم يسمع ذلك كله إلا بعد نزول القرآن وفي كلام المسلمين .

وقوله غير الحق منتصب على أنه مفعول يظنون كأنه قيل الباطل . وانتصب قوله ظن الجاهلية على المصدر المبين للنوع إذ كل أحد يعرف عقائد الجاهلية إن كان متلبسا بها أو تاركا لها .

[ ص: 137 ] وجملة يخفون حال من الضمير في يقولون أي يقولون ذلك في حال نيتهم غير ظاهره ، ف ( يخفون ) في أنفسهم ما لا يبدون لك إعلان بنفاقهم ، وأن قولهم هل لنا من الأمر من شيء وقولهم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا هو وإن كان ظاهره صورة العتاب عن ترك مشورتهم فنيتهم منه تخطئة النبيء في خروجه بالمسلمين إلى أحد ، وأنهم أسد رأيا منه .

وجملة يقولون لو كان لنا من الأمر شيء بدل اشتمال من جملة يخفون في أنفسهم إذ كانوا قد قالوا ذلك فيما بينهم ولم يظهروه ، أو هي بيان لجملة يقولون هل لنا من الأمر من شيء إذا أظهروا قولهم للمسلمين ، فترجع الجملة إلى معنى بدل الاشتمال من جملة يظنون لأنها لما بينت جملة هي بدل فهي أيضا كالتي بينتها ، وهذا أظهر لأجل قوله بعده قل لو كنتم في بيوتكم فإنه يقتضي أن تلك القالة فشت وبلغت الرسول ، ولا يحسن كون جملة يقولون لو كان إلى آخره مستأنفة خلافا لما في الكشاف .

وهذه المقالة صدرت من معتب بن قشير قال الزبير بن العوام : غشيني النعاس فسمعت معتب بن قشير يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . فحكى القرآن مقالته كما قالها ، وأسندت إلى جميعهم لأنهم سمعوها ورضوا بها .

وجملة قل إن الأمر كله لله رد عليهم هذا العذر الباطل أي أن الله ورسوله غير محتاجين إلى أمركم . والجملة معترضة . وقرأ الجمهور : كله - بالنصب - تأكيدا لاسم إن ، وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب - بالرفع - على نية الابتداء . والجملة خبر إن .

التالي السابق


الخدمات العلمية