الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة .

صفة رابعة لجنة .

وأعيد قوله : فيها دون أن يعطف سرر على عين عطف المفردات ; لأن عطف السرر على عين يبدو نابيا عن الذوق لعد الجامع بين عين الماء والسرر في الذهن لولا أن جمعها الكون في الجنة ، فلذلك كرر ظرف فيها تصريحا بأن تلك الظرفية هي الجامع ، ولأن بين ظرفية العين الجارية في الجنة وبين ظرفية السرر وما عطف عليه من متاع القصور والأثاث تفاوتا ولذلك عطف وأكواب ، ونمارق ، وزرابي ، لأنها متماثلة في أنها من متاع المساكن الفائقة .

[ ص: 302 ] وهذا وصف لمحاسن الجنة بمحاسن أثاث قصورها ، فضمير " فيها " عائد للجنة باعتبار أن ما في قصورها هو مظروف فيها بواسطة .

وسرر : جمع سرير ، وهو ما يجلس عليه ويضطجع فيسع الإنسان المضطجع . ويتخذ من خشب أو حديد له قوائم ليكون مرتفعا عن الأرض . ولما كان الارتفاع عن الأرض مأخوذا في مفهوم السرر كان وصفها بـ مرفوعة لتصوير حسنها .

والأكواب : جمع كوب بضم الكاف ، وهو إناء للخمر له ساق ولا عروة له . وموضوعة ، أي : لا ترفع من بين أيديهم كما ترفع آنية الشراب في الدنيا إذا بلغ الشاربون حد الاستطالة من تناول الخمر ، كني بـ موضوعة عن عدم انقطاع لذة الشراب طعما ونشوة ، أي : موضوعة بما فيها من أشربة .

وبين مرفوعة وموضوعة إيهام الطباق ; لأن حقيقة معنى الرفع ضد حقيقة معنى الوضع ، ولا تضاد بين مجاز الأول وحقيقة الثاني ولكنه إيهام التضاد .

والنمارق : جمع نمرقة بضم النون وسكون ميم بعدها راء مضمومة وهي الوسادة التي يتكئ عليها الجالس والمضطجع .

ومصفوفة : أي : جعل بعضها قريبا من بعض صفا ، أي : أينما أراد الجالس أن يجلس وجدها .

وزرابي : جمع زربية بفتح الزاي وسكون الراء وكسر الموحدة وتشديد الياء ، وهي البساط أو الطنفسة ( بضم الطاء ) المنسوج من الصوف الملون الناعم يفرش في الأرض للزينة والجلوس عليه لأهل الترف واليسار .

والزربية نسبة إلى ( أذربيجان ) بلد من بلاد فارس وبخارى ، فأصل زربية أذربية ، حذفت همزتها للتخفيف لثقل الاسم لعجمته واتصال ياء النسب به ، وذالها مبدلة عن الزاي في كلام العرب ; لأن اسم البلد في لسان الفرس أزربيجان بالزاي المعجمة بعدها راء مهملة وليس في الكلام الفارسي حرف الذال ، وبلد ( أذربيجان ) مشهور بنعومة صوف أغنامه . واشتهر أيضا بدقة صنع البسط والطنافس ورقة خملها .

[ ص: 303 ] والمبثوثة : المنتشرة على الأرض بكثرة وذلك يفيد كناية عن الكثرة .

وقد قوبلت صفات وجوه أهل النار بصفات وجوه أهل الجنة فقوبلت صفات ( خاشعة ، عاملة ، ناصبة ) بصفات ناعمة لسعيها راضية وقوبل قوله : تصلى نارا حامية بقوله في جنة عالية . وقوبل تسقى من عين آنية بقوله : فيها عين جارية ، وقوبل شقاء عيش أهل النار الذي أفاده قوله : ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع بمقاعد أهل الجنة المشعرة بترف العيش من شراب ومتاع .

وهذا وعد للمؤمنين بأن لهم في الجنة ما يعرفون من النعيم في الدنيا وقد علموا أن ترف الجنة لا يبلغه الوصف بالكلام وجمع ذلك بوجه الإجمال في قوله تعالى : وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ولكن الأرواح ترتاح بمألوفاتها فتعطاها فتكون نعيم أرواح الناس في كل عصر ومن كل مصر في الدرجة القصوى مما ألفوه ولا سيما ما هو مألوف لجميع أهل الحضارة والترف وكانوا يتمنونه في الدنيا ثم يزادون من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .

التالي السابق


الخدمات العلمية