الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 374 ] 18

ثم دخلت سنة ثمان عشرة

ذكر القحط وعام الرمادة

في سنة ثماني عشرة أصاب الناس مجاعة شديدة وجدب وقحط ، وهو عام الرمادة ، وكانت الريح تسفي ترابا كالرماد فسمي عام الرمادة ، واشتد الجوع حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس ، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قيحها .

وفيه أيضا كان طاعون عمواس .

وفيه ورد كتاب أبي عبيدة على عمر يذكر فيه أن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب ، منهم : ضرار وأبو جندل ، فسألناهم فتابوا ، وقالوا : خيرنا فاخترنا . قال : فهل أنتم منتهون ؟ ولم يعزم ، فكتب إليه عمر : إنما منعناه ، فانتهوا ، وقال له : ادعهم على رءوس الناس وسلهم أحلال الخمر أم حرام ، فإن قالوا : حرام ، فاجلدهم ثمانين ثمانين ، وإن قالوا : حلال ، فاضرب أعناقهم . فسألهم فقالوا : بل حرام ، فجلدهم ، وندموا على لجاجتهم ، وقال : ليحدثن فيكم يا أهل الشام حدث ، فحدث عام الرمادة .

وأقسم عمر أن لا يذوق سمنا ولا لبنا ولا لحما حتى يحيا الناس . فقدمت السوق [ ص: 375 ] عكة سمن ووطب من لبن ، فاشتراها غلام لعمر بأربعين درهما ثم أتى عمر فقال : يا أمير المؤمنين قد أبر الله يمينك وعظم أجرك ، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن ابتعتهما بأربعين درهما . فقال عمر : أغليت بهما فتصدق بهما فإني أكره أن آكل إسرافا . وقال : كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يصبني ما أصابهم !

وكتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها ويستمدهم ، فكان أول من قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح بأربعة آلاف راحلة من طعام ، فولاه قسمتها فيمن حول المدينة ، فقسمها وانصرف إلى عمله ، وتتابع الناس واستغنى أهل الحجاز .

وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم ، وأرسل فيه الطعام إلى المدينة ، فصار الطعام بالمدينة كسعر مصر ، ولم ير أهل المدينة بعد الرمادة مثلها حتى حبس عنهم البحر مع مقتل عثمان ، فذلوا وتقاصروا ، وكان الناس بذلك وعمر كالمحصور عن أهل الأمصار .

فقال أهل بيت من مزينة لصاحبهم ، وهو بلال بن الحارث : قد هلكنا فاذبح لنا شاة . قال : ليس فيهن شيء . فلم يزالوا به حتى ذبح فسلخ عن عظم أحمر ، فنادى : يا محمداه ! فأري في المنام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه فقال : أبشر بالحيا ، إيت عمر فأقرئه مني السلام ، وقل له إني عهدتك وأنت وفي العهد شديد العقد ، فالكيس الكيس يا عمر ! فجاء حتى أتى باب عمر فقال لغلامه : استأذن لرسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى عمر فأخبره ، ففزع وقال : رأيت به مسا ؟ قال : لا ، فأدخله ، وأخبره الخبر ، فخرج فنادى في الناس وصعد المنبر فقال : نشدتكم الله الذي هداكم هل رأيتم مني شيئا تكرهون ؟ قالوا : اللهم لا ، ولم ذاك ؟ فأخبرهم ففطنوا ولم يفطن عمر ، فقالوا : إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا . فنادى في الناس ، وخرج معه العباس ماشيا ، فخطب وأوجز وصلى ثم جثا لركبتيه وقال : اللهم عجزت عنا أنصارنا وعجز عنا حولنا وقوتنا وعجزت عنا أنفسنا ، ولا حول ولا قوة إلا بك ، اللهم فاسقنا وأحي العباد والبلاد ! وأخذ بيد العباس بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن دموع العباس لتتحادر على لحيته ، [ ص: 376 ] فقال : اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك - صلى الله عليه وسلم - وبقية آبائه وكبر رجاله ، فإنك تقول وقولك الحق : وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة فحفظتهما بصلاح آبائهما ، فاحفظ اللهم نبيك - صلى الله عليه وسلم - في عمه ، فقد دلونا به إليك مستشفعين مستغفرين . ثم أقبل على الناس فقال : استغفروا ربكم إنه كان غفارا .

وكان العباس قد طال عمره ، وعيناه تذرفان ولحيته تجول على صدره وهو يقول : اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالة ، ولا تدع الكسير بدار مضيعة ، فقد صرخ الصغير ورق الكبير وارتفعت الشكوى ، وأنت تعلم السر وأخفى ، اللهم فأغنهم بغناك قبل أن يقنطوا فيهلكوا ، فإنه لا ييأس إلا القوم الكافرون . فنشأت طريرة من سحاب ، فقال الناس : ترون ترون ! ثم التأمت ومشت فيها ريح ثم هدأت ودرت ، فوالله ما تروحوا حتى اعتنقوا الجدار وقلصوا المآزر ، فطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون : هنيئا لك ساقي الحرمين ! فقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب :


بعمي سقى الله الحجاز وأهله عشية يستسقي بشيبته عمر     توجه بالعباس في الجدب راغبا
إليه فما إن رام حتى أتى المطر     ومنا رسول الله فينا تراثه
فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر



ذكر طاعون عمواس

في هذه السنة كان طاعون عمواس بالشام ، فمات فيه أبو عبيدة بن الجراح ، وهو أمير الناس ، ومعاذ بن جبل ، ويزيد بن أبي سفيان ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وعتبة بن سهيل ، وعامر بن غيلان الثقفي ، مات وأبوه حي ، وتفانى الناس منه .

قال طارق بن شهاب : أتينا أبا موسى في داره بالكوفة نتحدث عنده فقال : لا عليكم أن تخفوا فقد أصيب في الدار إنسان ، ولا عليكم أن تنزهوا من هذه القرية فتخرجوا في فسح بلادكم ونزهها حتى يرفع هذا الوباء ، وسأخبركم بما يكره ويتقى ، [ ص: 377 ] من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات ، ويظن من أقام فأصابه لو خرج لم يصبه ، فإذا لم يظن المسلم هذا فلا عليه أن يخرج ، إني كنت مع أبي عبيدة بالشام عام طاعون عمواس ، فلما اشتعل الوجع ، وبلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه : أن سلام عليك ، أما بعد فقد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها ، فعزمت عليك إذا أنت نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل . فعرف أبو عبيدة ما أراد فكتب إليه : يا أمير المؤمنين ، قد عرفت حاجتك إلي وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم ، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه ، فحللني من عزيمتك . فلما قرأ عمر الكتاب بكى ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، أمات أبو عبيدة ؟ فقال : لا ، وكأن قد .

وكتب إليه عمر ليرفعن بالمسلمين من تلك الأرض ، فدعا أبا موسى فقال له : ارتد للمسلمين منزلا . قال : فرجعت إلى منزلي لأرتحل فوجدت صاحبتي قد أصيبت . فرجعت إليه فقلت له : والله لقد كان في أهلي حدث . فقال : لعل صاحبتك أصيبت ؟ قلت : نعم . قال : فأمر ببعيره فرحل له . فلما وضع رجله في غرزه طعن ، فقال : والله لقد أصبت ! ثم سار بالناس حتى نزل الجابية .

وكان أبو عبيدة قد قام في الناس فقال : أيها الناس ، إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم ، وإنأبا عبيدة سأل الله أن يقسم له منه حظه ، فطعن فمات . واستخلف على الناس معاذ بن جبل ، فقام خطيبا بعده فقال : أيها الناس ، إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم ، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ حظهم . فطعن ابنه عبد الرحمن فمات ، ثم قام فدعا به لنفسه فطعن في راحته ، فلقد كان يقبلها ثم يقول : ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا . فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص ، فخرج بالناس إلى الجبال ، ورفعه الله عنهم ، فلم يكره عمر ذلك من عمرو .

وقد قيل : إن عمر بن الخطاب قدم الشام ، فلما كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد ، فيهم أبو عبيدة بن الجراح ، فأخبروه بالوباء وشدته ، وكان معه المهاجرون والأنصار ، خرج غازيا ، فجمع المهاجرين الأولين والأنصار ، فاستشارهم ، فاختلفوا عليه ، فمنهم القائل : [ ص: 378 ] خرجت لوجه الله فلا يصدك عنه هذا ، ومنهم القائل : إنه بلاء وفناء فلا نرى أن تقدم عليه . فقال لهم : قوموا ، ثم أحضر مهاجرة الفتح من قريش ، فاستشارهم ، فلم يختلفوا عليه وأشاروا بالعود ، فنادى عمر في الناس : إني مصبح على ظهر . فقال أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ فقال : نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان ، إحداهما مخصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ فسمع بهم عبد الرحمن بن عوف فقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع ببلد وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه " . فانصرف عمر بالناس إلى المدينة .

وهذه الرواية أصح ، فإن البخاري ومسلما أخرجاها في صحيحيهما ، ( ولأن أبا موسى كان هذه السنة بالبصرة ولم يكن بالشام ، لكن هكذا ذكره وإنما أوردناه لننبه عليه ) .

( عمواس بفتح العين المهملة والميم والواو ، وبعد الألف سين مهملة . وسرغ بفتح السين المهملة ، وسكون الراء المهملة ، وآخره غين معجمة ) .

ومعنى قوله : دعوة نبيكم ، حين جاءه جبرائيل فقال : فناء أمتك بالطعن أو الطاعون . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فبالطاعون .

ولما هلك يزيد بن أبي سفيان استعمل عمر أخاه معاوية بن أبي سفيان على دمشق وخراجها ، واستعمل شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها . وأصاب الناس من [ ص: 379 ] الموت ما لم يروا مثله قط ، وطمع له العدو في المسلمين لطول مكثه ، مكث شهورا ، وأصاب الناس بالبصرة مثله ، وكان عدة من مات في طاعون عمواس خمسة وعشرين ألفا .

ذكر قدوم عمر إلى الشام بعد الطاعون

لما هلك الناس في الطاعون كتب أمراء الأجناد إلى عمر بما في أيديهم من المواريث ، فجمع الناس واستشارهم وقال لهم : قد بدا لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم لأنظر في آثارهم ، فأشيروا علي ، وفي القوم كعب الأحبار ، وفي تلك السنة أسلم ، فقال كعب : يا أمير المؤمنين ، بأيها تريد أن تبدأ ؟ قال : بالعراق . قال : فلا تفعل فإن الشر عشرة أجزاء ، تسعة منها بالمشرق وجزء بالمغرب ، والخير عشرة أجزاء تسعة بالمغرب وجزء بالمشرق ، وبها قرن الشيطان وكل داء عضال . فقال علي : يا أمير المؤمنين ، إن الكوفة للهجرة بعد الهجرة ، وإنها لقبة الإسلام ، ليأتينها يوم لا يبقى مسلم إلا وحن إليها ، لينتصرن بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط . فقال عمر : إن مواريث أهل عمواس قد ضاعت ، أبدأ بالشام فأقسم المواريث وأقيم لهم ما في نفسي ، ثم أرجع فأتقلب في البلاد وأبدي إليهم أمري .

فسار عن المدينة ، واستخلف عليها علي بن أبي طالب واتخذ أيلة طريقا ، فلما دنا منها ركب بعيره وعلى رحله فرو مقلوب ، وأعطى غلامه مركبه ، فلما تلقاه الناس قالوا : أين أمير المؤمنين ؟ قال : أمامكم ، يعني نفسه ، فساروا أمامهم ، وانتهى هو إلى أيلة فنزلها ، وقيل للمتلقين : قد دخل أمير المؤمنين إليها ونزلها ، فرجعوا [ إليه ] . وأعطى عمر الأسقف بها قميصه ، وقد تخرق ظهره ، ليغسله ويرقعه ، ففعل ، وأخذه ولبسه ، وخاط له الأسقف قميصا غيره فلم يأخذه . فلما قدم الشام قسم الأرزاق ، وسمى الشواتي [ ص: 380 ] والصوائف ، وسد فروج الشام ومسالحها ، وأخذ يدورها ، واستعمل عبد الله بن قيس على السواحل من كل كورة ، واستعمل معاوية ، وعزل شرحبيل بن حسنة وقام بعذره في الناس وقال : إني لم أعزله عن سخطة ، ولكني أريد رجلا أقوى من رجل . واستعمل عمرو بن عتبة على الأهراء . وقسم مواريث أهل عمواس ، فورث بعض الورثة من بعض ، وأخرجها إلى الأحياء من ورثة كل منهم . وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهل بيته فلم يرجع منهم إلا أربعة .

ورجع عمر إلى المدينة في ذي القعدة .

ولما كان بالشام وحضرت الصلاة قال له الناس : لو أمرت بلالا فأذن ، فأمره فأذن ، فما بقي أحد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلال يؤذن إلا وبكى حتى بل لحيته ، وعمر أشدهم بكاء ، وبكى من لم يدركه ببكائهم ولذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال الواقدي : إن الرهاء وحران والرقة فتحت هذه السنة على يد عياض بن غنم ، وإن عين الوردة ، وهي رأس عين ، فتحت فيها على يد عمير بن سعد ، وقد تقدم شرح فتحها .

في هذه السنة في ذي الحجة حول عمر المقام إلى موضعه اليوم ، وكان ملصقا بالبيت .

[ ص: 381 ] وفيها استقضى عمر شريح بن الحارث الكندي على الكوفة ، وعلى البصرة كعب بن سور الأزدي . وكانت الولاة على الأمصار الولاة [ الذين كانوا عليها ] في السنة قبلها .

وحج بالناس عمر بن الخطاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية