الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب من أحيا أرضا مواتا ورأى ذلك علي في أرض الخراب بالكوفة موات وقال عمر من أحيا أرضا ميتة فهي له ويروى عن عمرو بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال في غير حق مسلم وليس لعرق ظالم فيه حق ويروى فيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                        2210 حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن عبد الرحمن عن عروة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق قال عروة قضى به عمر رضي الله عنه في خلافته [ ص: 23 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 23 ] قوله : ( باب من أحيا أرضا مواتا ) بفتح الميم والواو الخفيفة ، قال القزاز : الموات الأرض التي لم تعمر ، شبهت العمارة بالحياة ، وتعطيلها بفقد الحياة ، وإحياء الموات أن يعمد الشخص لأرض لا يعلم تقدم مالك عليها لأحد فيحييها بالسقي أو الزرع أو الغرس أو البناء فتصير بذلك ملكه سواء كانت فيما قرب من العمران أم بعد ، سواء أذن له الإمام في ذلك أم لم يأذن ، وهذا قول الجمهور ، وعن أبي حنيفة لا بد من إذن الإمام مطلقا ، وعن مالك فيما قرب ، وضابط القرب ما بأهل العمران إليه حاجة من رعي ونحوه ، واحتج الطحاوي للجمهور مع حديث الباب بالقياس على ماء البحر والنهر وما يصاد من طير وحيوان ، فإنهم اتفقوا على أن من أخذه أو صاده يملكه سواء قرب أم بعد ، سواء أذن الإمام أو لم يأذن .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ورأى علي ذلك في أرض الخراب بالكوفة ) كذا وقع للأكثر ، وفي رواية النسفي " في أرض الكوفة مواتا " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال عمر : من أحيا أرضا ميتة فهي له ) وصله مالك في " الموطأ " عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه مثله ، وروينا في " الخراج ليحيى بن آدم " سبب ذلك فقال : " حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : كان الناس يتحجرون - يعني الأرض - على عهد عمر ، قال : من أحيا أرضا فهي له . قال يحيى : كأنه لم يجعلها له بمجرد التحجير حتى يحييها " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ويروى عن عمرو بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم ) أي مثل حديث عمر هذا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال فيه : في غير حق مسلم ، وليس لعرق ظالم حق ) وصله إسحاق بن راهويه قال : أخبرنا أبو عامر العقدي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف حدثني أبي أن أباه حدثه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : من أحيا أرضا مواتا من غير أن يكون فيها حق مسلم فهي له ، وليس لعرق ظالم حق وهو عند الطبراني ثم البيهقي ، وكثير هذا ضعيف ، وليس لجده عمرو بن عوف في البخاري سوى هذا الحديث ، وهو غير عمرو بن عوف الأنصاري البدري الآتي حديثه في الجزية وغيرها ، وليس له أيضا عنده [ ص: 24 ] غيره . ووقع في بعض الروايات " وقال عمر وابن عوف " على أن الواو عاطفة وعمر بضم العين وهو تصحيف ; وشرحه الكرماني ثم قال : فعلى هذا يكون ذكر عمر مكررا ، وأجاب بأن فيه فوائد ؛ كونه تعليقا بالجزم والآخر بالتمريض ، وكونه بزيادة والآخر بدونها ، وكونه مرفوعا والأول موقوف ، ثم قال : والصحيح أنه عمرو بفتح العين .

                                                                                                                                                                                                        قلت : فضاع ما تكلفه من التوجيه . ولحديث عمرو بن عوف المعلق شاهد قوي أخرجه أبو داود من حديث سعيد بن زيد ، وله من طريق ابن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه مثله مرسلا وزاد " قال عروة : فلقد خبرني الذي حدثني بهذا الحديث أن رجلين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها " .

                                                                                                                                                                                                        وفي الباب عن عائشة أخرجه أبو داود الطيالسي ، وعن سمرة عند أبي داود والبيهقي وعن عبادة وعبد الله بن عمرو عند الطبراني ، وعن أبي أسيد عند يحيى بن آدم في " كتاب الخراج " . وفي أسانيدها مقال ، لكن يتقوى بعضها ببعض .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لعرق ظالم ) في رواية الأكثر بتنوين عرق ، و " ظالم " نعت له ، وهو راجع إلى صاحب العرق أي ليس لذي عرق ظالم ، أو إلى العرق أي ليس لعرق ذي ظلم ، ويروى بالإضافة ويكون الظالم صاحب العرق فيكون المراد بالعرق الأرض ، وبالأول جزم مالك والشافعي والأزهري وابن فارس وغيرهم ، وبالغ الخطابي فغلط رواية الإضافة ، قال ربيعة : العرق الظالم يكون ظاهرا ويكون باطنا فالباطن ما احتفره الرجل من الآبار أو استخرجه من المعادن والظاهر ما بناه أو غرسه ، وقال غيره : الظالم من غرس أو زرع أو بنى أو حفر في أرض غيره بغير حق ولا شبهة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ويروى فيه ) أي في الباب أو الحكم ( عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ) وصله أحمد قال : " حدثنا عباد بن عباد حدثنا هشام عن عروة عن وهب بن كيسان عن جابر " فذكره ولفظه " من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر ، وما أكلت العوافي منها فهو له صدقة " وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن هشام بلفظ " من أحيا أرضا ميتة فهي له " وصححه . وقد اختلف فيه على هشام فرواه عنه عباد هكذا ، ورواه يحيى القطان وأبو ضمرة وغيرهما عنه عن أبي رافع عن جابر ، ورواه أيوب عن هشام عن أبيه عن سعيد بن زيد ، ورواه عبد الله بن إدريس عن هشام عن أبيه مرسلا . واختلف فيه على عروة فرواه أيوب عن هشام موصولا ، وخالفه أبو الأسود فقال : عن عروة عن عائشة كما في هذا الباب ، ورواه يحيى بن عروة عن أبيه مرسلا كما ذكرته من سنن أبي داود ، ولعل هذا هو السر في ترك جزم البخاري به .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : استنبط ابن حبان من هذه الزيادة التي في حديث جابر وهي قوله : " فله فيها أجر " أن الذمي لا يملك الموات بالإحياء ، واحتج بأن الكافر لا أجر له ، وتعقبه المحب الطبري بأن الكافر إذا تصدق يثاب عليه في الدنيا كما ورد به الحديث ، فيحمل الأجر في حقه على ثواب الدنيا وفي حق المسلم على ما هو أعم من ذلك ، وما قاله محتمل إلا أن الذي قاله ابن حبان أسعد بظاهر الحديث ، ولا يتبادر إلى الفهم من إطلاق الأجر إلا الأخروي .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 25 ] قوله : ( عن عبيد الله بن أبي جعفر ) هو المصري ، ومحمد بن عبد الرحمن شيخه هو أبو الأسود يتيم عروة ، ونصف الإسناد الأعلى مدنيون ونصفه الآخر مصريون .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من أعمر ) بفتح الهمزة والميم من الرباعي قال عياض كذا وقع والصواب " عمر " ثلاثيا قال الله تعالى : وعمروها أكثر مما عمروها إلا أن يريد أنه جعل فيها عمارا ، قال ابن بطال : ويمكن أن يكون أصله من اعتمر أرضا أي اتخذها ، وسقطت التاء من الأصل . وقال غيره قد سمع فيه الرباعي ، يقال أعمر الله بك منزلك فالمراد من أعمر أرضا بالإحياء فهو أحق به من غيره ، وحذف متعلق " أحق " للعلم به . ووقع في رواية أبي ذر " من أعمر " بضم الهمزة أي أعمره غيره ، وكأن المراد بالغير الإمام . وذكره الحميدي في جمعه بلفظ " من عمر " من الثلاثي ، وكذا هو عند الإسماعيلي من وجه آخر عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فهو أحق ) زاد الإسماعيلي " فهو أحق بها " أي من غيره .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال عروة ) هو موصول بالإسناد المذكور إلى عروة ، ولكن عروة عن عمر مرسلا ، لأنه ولد في آخر خلافة عمر قاله خليفة ، وهو قضية قول ابن أبي خيثمة أنه كان يوم الجمل ابن ثلاث عشرة سنة لأن الجمل كان سنة ست وثلاثين وقتل عمر كان سنة ثلاث وعشرين . وروى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال : " رددت يوم الجمل ، استصغرت " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قضى به عمر في خلافته ) قد تقدم في أول الباب موصولا إلى عمر . وروينا في " كتاب الخراج ليحيى بن آدم " من طريق محمد بن عبيد الله الثقفي قال : كتب عمر بن الخطاب من أحيا مواتا من الأرض فهو أحق به . وروى من وجه آخر عن عمرو بن شعيب أو غيره أن عمر قال : " من عطل أرضا ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له " . وكأن مراده بالتعطيل أن يتحجرها ولا يحوطها ببناء ولا غيره . وأخرج الطحاوي الطريق الأولى أتم منه بالسند إلى الثقفي المذكور قال : " خرج رجل من أهل البصرة يقال له أبو عبد الله إلى عمر فقال : إن بأرض البصرة أرضا لا تضر بأحد من المسلمين وليست بأرض خراج ، فإن شئت أن تقطعنيها أتخذها قضبا وزيتونا ، فكتب عمر إلى أبي موسى : إن كان كذلك فأقطعها إياه " .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية