الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 4915 ) مسألة ; قال : ( وابن الملاعنة ترثه أمه وعصبتها ، فإن خلف أما وخالا فلأمه الثلث ، وما بقي فللخال ) وجملته ، أن الرجل إذا لاعن امرأته ، ونفى ولدها ، وفرق الحاكم بينهما ; انتفى ولدها عنه ، وانقطع تعصيبه من جهة الملاعن ، فلم يرثه هو ولا أحد من عصباته ، وترث أمه وذوو الفروض منه فروضهم ، وينقطع التوارث بين الزوجين ، لا نعلم بين أهل العلم في هذه الجملة خلافا

                                                                                                                                            وأما إن مات أحدهم قبل تمام اللعان من الزوجين ، ورثه الآخران في قول الجمهور . وقال الشافعي رضي الله عنه : إذا أكمل الزوج لعانه لم يتوارثا . وقال مالك : إن مات الزوج بعد لعانه ، فإن لاعنت المرأة لم ترث ، ولم تحد ، وإن لم تلاعن ، ورثت ، وحدت . وإن ماتت هي بعد لعان الزوج ، ورثها في قول جميعهم ، إلا الشافعي رضي الله عنه . وإن تم اللعان بينهما ، فمات أحدهما قبل تفريق الحاكم بينهما

                                                                                                                                            ففيه روايتان ; إحداهما ، لا يتوارثان ، وهو قول مالك ، وزفر ، وروي نحو ذلك عن الزهري ، وربيعة ، والأوزاعي ، وداود ; لأن اللعان يقتضي التحريم المؤبد ، فلم يعتبر في حصول الفرقة به التفريق بينهما ، كالرضاع . والرواية الثانية ، يتوارثان ما لم يفرق الحاكم بينهما . وهو قول أبي حنيفة ، وصاحبيه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين ، ولو حصل التفريق باللعان لم يحتج إلى تفريقه . وإن فرق الحاكم بينهما قبل تمام اللعان ، لم تقع الفرقة ، ولم [ ص: 225 ] ينقطع التوارث في قول الجمهور

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة وصاحباه : إن فرق بينهما بعد أن تلاعنا ثلاثا ، وقعت الفرقة ، وانقطع التوارث ; لأنه وجد منهما معظم اللعان ، وإن فرق بينهما قبل ذلك ، لم تقع الفرقة ، ولم ينقطع التوارث . ولنا ، أنه تفريق قبل تمام اللعان ، فأشبه التفريق قبل الثلاث . وهذا الخلاف في توارث الزوجين . فأما الولد ، فالصحيح أنه ينتفي عن الملاعن إذا تم اللعان بينهما من غير اعتبار تفريق الحاكم .

                                                                                                                                            لأن انتفاءه بنفيه ، لا بقول الحاكم : فرقت بينكما ، فإن لم يذكره في اللعان لم ينتف عن الملاعن ، ولم ينقطع التوارث بينهما . وقال أبو بكر : ينتفي بزوال الفراش ، وإن لم يذكره ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الولد عن الملاعن ، وألحقه بأمه ، ولم يذكره الرجل في لعانه . ويحقق ذلك أن الولد كان حملا في البطن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { أنظروها ، فإن جاءت به أحيمر ، كأنه وحرة ، حمش الساقين ، فلا أراه إلا قد كذب عليها ، وإن جاءت به جعدا ، جماليا ، خدلج الساقين ، سابغ الأليتين ، فهو للذي رميت به } فأتت به على النعت المكروه

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، عدنا إلى مسألة الكتاب ، فنقول : اختلف أهل العلم في ميراث الولد المنفي باللعان ، فروي عن أحمد فيه روايتان ; إحداهما ، أن عصبته عصبة أمه . نقلها الأثرم ، وحنبل . يروى ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر . وبه قال الحسن ، وابن سيرين ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، والشعبي ، والنخعي ، والحكم ، وحماد ، والثوري ، والحسن بن صالح ، إلا أن عليا يجعل ذا السهم من ذوي الأرحام أحق ممن لا سهم له ، وقدم الرد على غيره

                                                                                                                                            والرواية الثانية ، أن أمه عصبته ، فإن لم تكن فعصبتها عصبته . نقله أبو الحارث ، ومهنا . وهذا قول ابن مسعود . وروي نحوه عن علي ، ومكحول ، والشعبي ; لما روي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم { جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها } ورواه أيضا مكحول ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا . وروى واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { تحوز المرأة ثلاثة مواريث ; عتيقها ، ولقيطها ، وولدها الذي لاعنت عليه } . وعن عبيد الله بن عبيد بن عمير ، وقال : { كتبت إلى صديق لي من أهل المدينة من بني زريق أسأله عن ولد الملاعنة ، لمن قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إلي ; إني سألت فأخبرت أنه قضى به لأمه ، هي بمنزلة أبيه وأمه . } رواهن أبو داود .

                                                                                                                                            ولأنها قامت مقام أبيه وأمه في انتسابه إليها ، فقامت مقامهما في حيازة ميراثه ، ولأن عصبات الأم أدلوا بها ، فلم يرثوا معها ، كأقارب الأب معه . وكان زيد بن ثابت يورث من ابن الملاعنة ، كما يورث من غير ابن الملاعنة ، ولا يجعلها عصبة ابنها ، ولا عصبتها عصبته . فإن كانت أمه مولاة لقوم جعل الباقي من ميراثها لمولاها ، فإن لم تكن مولاة جعله لبيت المال

                                                                                                                                            وعن ابن عباس نحوه ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وعروة ، وسليمان بن يسار ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري ، وربيعة ، وأبو الزناد ، ومالك ، وأهل المدينة ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وصاحباه ، وأهل البصرة ، إلا أن أبا حنيفة وأهل البصرة جعلوا الرد ، وذوي الأرحام ، أحق من بيت المال ; لأن الميراث إنما ثبت بالنص ، ولا نص في توريث الأم أكثر من الثلث ، ولا في توريث الأخ من الأم أكثر من السدس ، ولا في توريث أبي الأم وأشباهه من عصبات الأم ، ولا قياس أيضا ، فلا وجه لإثباته

                                                                                                                                            [ ص: 226 ] ووجه قول الخرقي قول النبي صلى الله عليه وسلم : { ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر } . وأولى الرجال به أقارب أمه . وعن عمر ، رضي الله عنه أنه ألحق ولد الملاعنة بعصبة أمه . وعن علي رضي الله عنه أنه لما رجم المرأة دعا أولياءها فقال : هذا ابنكم ترثونه ولا يرثكم ، وإن جنى جناية فعليكم حكاه الإمام أحمد عنه .

                                                                                                                                            ولأن الأم لو كانت عصبة كأبيه لحجبت إخوته . ولأن مولاها مولى أولادها ، فيجب أن تكون عصبتها عصبته ، كالأب . فإذا خلف ابن الملاعنة أما ، وخالا ، فلأمه الثلث بلا خلاف ، والباقي لخاله ; لأنه عصبة أمه . وعلى الرواية الأخرى ، هو لها كله . وهذا قول علي ، وابن مسعود ، وأبي حنيفة ، وموافقيه ، إلا أن ابن مسعود يعطيها إياه ; لكونها عصبة ; والباقون بالرد ، وعند زيد ، الباقي لبيت المال

                                                                                                                                            فإن كان معهما مولى أم ، فلا شيء له عندنا . وقال زيد ، ومن وافقه ، وأبو حنيفة : الباقي له . وإن لم يكن لأمه عصبة إلا مولاها ، فالباقي له على الرواية التي اختارها الخرقي ، وعلى الأخرى ، هو للأم ، وهو قول ابن مسعود ; لأنها عصبة ابنها . فإن لم يخلف إلا أمه ، فلها الثلث بالفرض ، والباقي بالرد ، وهو قول علي وسائر من يرى الرد . وفي الرواية الأخرى ، لها الباقي بالتعصيب

                                                                                                                                            وإن كان مع الأم عصبة لها ، فهل يكون الباقي لها أو له ؟ على روايتين . وإن كان لها عصبات ، فهو لأقربهم منها على رواية الخرقي ، فإذا كان معها أبوها ، وأخوها ، فهو لأبيها ، وإن كان مكان أبيها جدها فهو بين أخيها وجدها نصفين ، وإن كان معهم ابنها ، وهو أخوه لأمه ، فلا شيء لأخيها ، ويكون لأمه الثلث ، ولأخيه السدس ، والباقي لأخيه ، أو ابن أخيه . وإن خلف أمه ، وأخاه ، وأخته ، فلكل واحد منهم السدس ، والباقي لأخيه ، دون أخته . وإن خلف ابن أخته ، وبنت أخته ، أو خاله وخالته ، فالباقي للذكر

                                                                                                                                            وإن خلف أخته وابن أخته ، فلأخته السدس ، والباقي لابن أخته ، وعلى الرواية الأخرى ، الباقي للأم في هذه المواضع .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية