الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 121 ] باب ميراث الجد

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " والجد لا يرث مع الأب ، فإن لم يكن أب فالجد بمنزلة الأب إن لم يكن الميت ترك أحدا من ولد أبيه الأدنين أو أحدا من أمهات أبيه ، وإن عالت الفريضة إلا في فريضتين زوج وأبوين أو امرأة وأبوين ، فإنه إذا كان فيهما مكان الأب جد صار للأم الثلث كاملا وما بقي فللجد بعد نصيب الزوج أو الزوجة ، وأمهات الأب لا يرثن مع الأب ويرثن مع الجد " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما الجد المطلق فهو أبو الأب لا غير ، فأما أبو الأم فهو جد بتقييد ، ثم الجد يجمع رحما وتعصيبا كالأب ، فيرث تارة بالرحم فرضا مقدرا ، ويرث بالتعصيب تارة مرسلا ، ويجمع بين الفرض والتعصيب في موضع ، ولا خلاف أن الجد لا يسقط إلا بالأب وحده ، وله في ميراثه ثلاثة أحوال أجمعوا أنه فيها كالأب ، وحالة أجمعوا أنه فيها بخلاف الأب ، وحال اختلفوا هل هو فيها كالأب أم لا ؟

                                                                                                                                            فأما الحال التي أجمعوا على أنه فيها كالأب فمع البنين وبنيهم يأخذ بالفرض وحده ، ومع البنات وبنات الابن يأخذ بالفرض والتعصيب إن بقي شيء كالأب ويسقط سائر العصبات سوى الإخوة من الأعمام وبنيهم وبني الإخوة إلا في رواية شاذة حكاها إسماعيل بن أبي خالد عن علي - عليه السلام - أنه قاسم الجد مع بني الإخوة ، وليست ثابتة ، ويسقط الإخوة للأم ، فهذه حال هو والأب فيها سواء ، وأما ما أجمعوا عليه على أنه فيه مخالف للأب ، ففي فريضتين هما : زوج وأبوان ، أو زوجة وأبوان ، فإن للأم ثلث ما يبقى بعد فرض الزوج والزوجة ، فإن كان مكان الأب جد فللأم ثلث جميع المال في الفريضتين ، أما مع الزوجة فباتفاق ، وأما مع الزوج فهو قول الأكثرين ، وحكي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه جعل للأم ثلث ما بقي والباقي للجد للأب ، وحكي عن ابن مسعود أنه جعل للزوج النصف ، والباقي بين الجد والأم نصفين ، وهي إحدى مربعاته : لأنه جعل المال أرباعا ، والذي عليه الجمهور ما ذكرنا ، والجد يحجب أم نفسه دون أمهات الأب ، فهذه حال ذهبوا إلى أنه فيها مخالف للأب ، وأما ما اختلفوا هل الجد فيه كالأب أم لا ؟ فمع الإخوة والأخوات ، وقد كانت الصحابة - رضي الله عنهم - لاشتباه الأمر فيه تكره القول فيه حتى روى سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجرؤكم على قسم الجد أجرؤكم على النار

                                                                                                                                            [ ص: 122 ] وقال علي - عليه السلام - : " من سره أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الإخوة والجد " ، وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : سلونا عن عضلكم ودعونا من الجد لا حياه الله " . فاختلف الصحابة ومن بعدهم في سقوط الإخوة والأخوات بالجد ، فروي عن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عباس وعائشة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم - أن الجد يسقط الإخوة والأخوات كالأب ، وعن عمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - مثله ، ثم رجعوا عنه ، بل روي عنهم أنهم لم يختلفوا فيه أيام أبي بكر حتى مات رضي الله عنه .

                                                                                                                                            وبهذا قال من التابعين عطاء وطاوس والحسن ، وقال به من الفقهاء أبو حنيفة والمزني وأبو ثور وإسحاق وابن سريج وداود ، وروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وعمران بن الحصين - رضي الله عنهم - أن الجد يقاسم الإخوة والأخوات ولا يسقطهم على ما سنذكره من كيفية مقاسمته لهم .

                                                                                                                                            وبه قال من التابعين شريح والشعبي ومسروق وعبيدة السلماني ، ومن الفقهاء الشافعي ومالك والأوزاعي والثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل ، واستدل من أسقط الإخوة والأخوات بالجد بقول الله تعالى : واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق [ يوسف : 38 ] ، وقال تعالى : ملة أبيكم إبراهيم [ الحج : 78 ] ، فسماه أبا ، وإذا كان اسم الأب منطلقا على الجد وجب أن يكون في الحكم كالأب ، ولأن للميت طرفين أعلى وأدنى ، فالأعلى الأب ومن علا ، والأدنى الابن ومن سفل ، فلما كان ابن الابن كالابن في حجب الإخوة وجب أن يكون أبو الأب كالأب في حجب الإخوة . وتحريره قياسا أنه أحد الطرفين فاستوى حكم أوله وآخره كالطرف الآخر ، قالوا : ولأن الجد عصبة لا يعقل ، فوجب أن يسقط العصبة التي تعقل كالابن ، ولأن من جمع الولادة والتعصيب أسقط من عدا الولادة وتفرد بالتعصيب كالابن ، ولأن للجد تعصيبا ورحما يرث بكل واحد منهما منفردا ، فكان أقوى من الأخ الذي ليس يدلي إلا بالتعصيب وحده ، قالوا : ولأن الجد يدلي بابن والأخ يدلي بالأب ، والابن أقوى من الأب ، فكان الإدلاء بالابن أقوى من الإدلاء بالأب ، ولأن للجد ولاية يستحقها بقوته في نكاح الصغيرة وعلى مالها ويضعف الأخ بما قصر فيها .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن الأخ لو قاسم الجد كالأخوين لوجب أن يقتسمها في كل فريضة ورث فيها جد كما يقاسم الأخ الأخ في كل فريضة ورث فيها أخ ، فلما لم يقاسمه في غير هذا الموضع لم يقاسمه في هذا الموضع .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن الجد في مقاسمة الإخوة لا يخلو من ثلاثة أحوال : إما أن يكون كالأخ للأب والأم ، أو كالأخ للأب أو أقوى منهما ، وليس يجوز أن يكون أضعف منهما : لأنه لا يسقط بهما ، فلو كان كالأخ للأب والأم لم يرث معه الأخ للأب ، ولو كان كالأخ للأب لما ورث مع الأخ للأب والأم ، وإذا امتنع بما ذكرنا أن يكون كأحدهما ثبت أنه أقوى منهما ، والله أعلم .

                                                                                                                                            [ ص: 123 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية