الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الملك

سماها النبيء - صلى الله عليه وسلم - ( سورة تبارك الذي بيده الملك ) في حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفرت له وهي ( سورة تبارك الذي بيده الملك ) قال الترمذي هذا حديث حسن .

فهذا تسمية للسورة بأول جملة وقعت فيها فتكون تسمية بجملة كما سمي ثابت بن جابر تأبط شرا . ولفظ سورة مضاف إلى تلك الجملة المحكية .

وسميت أيضا ( تبارك الملك ) بمجموع الكلمتين في عهد النبيء - صلى الله عليه وسلم - وبسمع منه فيما رواه الترمذي عن ابن عباس أن رجلا من أصحاب النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال له : ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان - أي دفين فيه - يقرأ سورة ( تبارك الملك ) حتى ختمها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر حديث حسن غريب فيكون اسم السورة مجموع هذين اللفظين على طريقة عد الكلمات في اللفظ دون إضافة إحداهما إلى [ ص: 6 ] الأخرى مثل تسمية لام ألف . ونظيره أسماء السور بالأحرف المقطعة التي في أولها على بعض الأقوال في المراد منها وعليه فيحكى لفظ تبارك بصيغة الماضي ويحكى لفظ الملك مرفوعا كما هو في الآية ، فيكون لفظ سورة مضافا من إضافة المسمى إلى الاسم . لأن المقصود تعريف السورة بهاتين الكلمتين على حكاية اللفظين الواقعين في أولها مع اختصار ما بين الكلمتين وذلك قصدا للفرق بينهما وبين تبارك الفرقان . كما قالوا :عبيد الله الرقيات ، بإضافة مجموع عبيد الله إلى الرقيات تمييزا لعبيد الله بن قيس العامري الشاعر عن غيره ممن يشبه اسمه اسمه مثل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أو لمجرد اشتهاره بالتشبيه في نساء كان اسم كل واحدة منهن رقية وهن ثلاث . ولذلك يجب أن يكون لفظ تبارك في هذا المركب مفتوح الآخر . ولفظ الملك مضموم الكاف . وكذلك وقع ضبطه في نسخة جامع الترمذي وكلتاهما حركة حكاية .

والشائع في كتب السنة وكتب التفسير وفي أكثر المصاحف تسمية هذه السورة سورة الملك وكذلك ترجمها الترمذي : باب ما جاء في فضل سورة الملك . وكذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه .

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : كنا نسميها على عهد رسول الله المانعة ، أي أخذا من وصف النبيء - صلى الله عليه وسلم - إياها بأنها المانعة المنجية كما في حديث الترمذي المذكور آنفا وليس بالصريح في التسمية .

وفي الإتقان عن تاريخ ابن عساكر من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سماها المنجية ولعل ذلك من وصفه إياها بالمنجية في حديث الترمذي وليس أيضا بالصريح في أنه اسم .

وفي الإتقان عن كتاب جمال القراء تسمى أيضا الواقية ، وتسمى المناعة بصيغة المبالغة .

[ ص: 7 ] وذكر الفخر : أن ابن عباس كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن قارئها عند سؤال الملكين ولم أره لغير الفخر .

فهذه ثمانية أسماء سميت بها هذه السورة .

وهي مكية قال ابن عطية والقرطبي : باتفاق الجميع .

وفي الإتقان أخرج جويبر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس نزلت تبارك الملك في أهل مكة إلا ثلاث آيات اهـ . فيحتمل أن الضحاك عنى استثناء ثلاث آيات نزلت في المدينة . وهذا الاحتمال هو الذي يقتضيه إخراج صاحب الإتقان هذا النقل في عداد السور المختلف في بعض آياتها ، ويحتمل أن يريد أن ثلاث آيات منها غير مخاطب بها أهل مكة ، وعلى كلا الاحتمالين فهو لم يعين هذه الآيات الثلاث وليس في آيات السورة ثلاث آيات لا تتعلق بالمشركين خاصة بل نجد الخمس الآيات الأوائل يجوز أن يكون القصد منها الفريقين من أول السورة إلى قوله عذاب السعير .

وقال في الإتقان أيضا : فيها قول غريب لم يعزه أن جميع السورة مدني .

وهي السادسة والسبعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة المؤمنين وقبل سورة الحاقة .

وآيها في عد أهل الحجاز إحدى وثلاثون وفي عد غيرهم ثلاثون .

أغراض السورة والأغراض التي في هذه السورة جارية على سنن الأغراض في السور المكية . ابتدأت بتعريف المؤمنين معاني من العلم بعظمة الله تعالى وتفرده بالملك الحق ؛ والنظر في إتقان صنعه الدال على تفرده بالإلهية فبذلك يكون في تلك الآيات حظ لعظة المشركين .

[ ص: 8 ] ومن ذلك التذكير بأنه أقام نظام الموت والحياة لتظهر في الحالين مجاري أعمال العباد في ميادين السبق إلى أحسن الأعمال ونتائج مجاريها . وأنه الذي يجازي عليها .

وانفراده بخلق العوالم خلقا بالغا غاية الإتقان فيما تراد له .

وأتبعه بالأمر بالنظر في ذلك وبالإرشاد إلى دلائله الإجمالية وتلك دلائل على انفراده بالإلهية .

متخلصا من ذلك إلى تحذير الناس من كيد الشياطين ، والارتباق معهم في ربقة عذاب جهنم وأن في اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - نجاة من ذلك وفي تكذيبه الخسران ، وتنبيه المعاندين للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى علم الله بما يحوكونه للرسول ظاهرا وخفية بأن علم الله محيط بمخلوقاته .

والتذكير بمنة خلق العالم الأرضي ، ودقة نظامه ، وملاءمته لحياة الناس ، وفيها سعيهم ومنها رزقهم .

والموعظة بأن الله قادر على إفساد ذلك النظام فيصبح الناس في كرب وعناء يتذكروا قيمة النعم بتصور زوالها .

وضرب لهم مثلا في لطفه تعالى بهم بلطفه بالطير في طيرانها .

وأيأسهم من التوكل على نصرة الأصنام أو على أن ترزقهم رزقا .

وفظع لهم حالة الضلال التي ورطوا أنفسهم فيها .

ثم وبخ المشركين على كفرهم نعمة الله تعالى وعلى وقاحتهم في الاستخفاف بوعيده وأنه وشيك الوقوع بهم .

ووبخهم على استعجالهم موت النبيء - صلى الله عليه وسلم - ليستريحوا من دعوته .

وأوعدهم بأنهم سيعلمون ضلالهم حين لا ينفعهم العلم ، وأنذرهم بما قد يحل بهم من قحط وغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية