الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    [ ص: 223 ] ( إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ( 110 ) وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ( 111 ) )

                                                                                                                                                                                                    يذكر تعالى ما امتن به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم - عليه السلام - مما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات ، فقال تعالى : ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك ) أي : في خلقي إياك من أم بلا ذكر ، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء ( وعلى والدتك ) حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون الجاهلون إليها من الفاحشة ( إذ أيدتك بروح القدس ) وهو جبريل ، - عليه السلام - ، وجعلتك نبيا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك ، فأنطقتك في المهد صغيرا ، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب ، واعترفت لي بالعبودية ، وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك إلى عبادتي ; ولهذا قال تعالى : ( تكلم الناس في المهد وكهلا ) أي : تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك . وضمن " تكلم " تدعو ; لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وإذ علمتك الكتاب والحكمة ) أي : الخط والفهم ) والتوراة ) وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم ، وقد يرد لفظ التوراة في الحديث ويراد به ما هو أعم من ذلك .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني ) أي : تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك فيكون طائرا بإذني ، أي : فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك ، فتكون طيرا ذا روح بإذن الله وخلقه .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني ) قد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وإذ تخرج الموتى بإذني ) أي : تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته ، وإرادته ومشيئته .

                                                                                                                                                                                                    وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن طلحة - يعني ابن مصرف - عن أبي بشر ، عن أبي الهذيل قال : كان عيسى ابن مريم ، - عليه السلام - ، إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين ، يقرأ في الأولى : ( تبارك الذي بيده الملك ) [ سورة الملك ] ، وفي الثانية : ( الم . تنزيل الكتاب ) [ ص: 224 ] [ سورة السجدة ] . فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه ، ثم دعا بسبعة أسماء : يا قديم ، يا خفي ، يا دائم ، يا فرد ، يا وتر ، يا أحد ، يا صمد - وكان إذا أصابته شدة دعا بسبعة أخر : يا حي ، يا قيوم ، يا الله ، يا رحمن ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا نور السموات والأرض ، وما بينهما ورب العرش العظيم ، يا رب .

                                                                                                                                                                                                    وهذا أثر عجيب جدا .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ) أي : واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم ، فكذبوك واتهموك بأنك ساحر ، وسعوا في قتلك وصلبك ، فنجيتك منهم ، ورفعتك إلي ، وطهرتك من دنسهم ، وكفيتك شرهم . وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا ، أو يكون هذا الامتنان واقعا يوم القيامة ، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة . وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ) وهذا أيضا من الامتنان عليه - - عليه السلام - - بأن جعل له أصحابا وأنصارا . ثم قيل : المراد بهذا الوحي وحي إلهام ، كما قال : ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ) الآية [ القصص : 7 ] ، وهذا وحي إلهام بلا خوف ، وكما قال تعالى : ( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون . ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا ) الآية [ النحل : 68 ، 69 ] . وهكذا قال بعض السلف في هذه الآية : ( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا ) [ أي : بالله وبرسول الله ] ( واشهد بأننا مسلمون ) أي : ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا .

                                                                                                                                                                                                    قال الحسن البصري : ألهمهم الله . عز وجل ذلك ، وقال السدي : قذف في قلوبهم ذلك .

                                                                                                                                                                                                    ويحتمل أن يكون المراد : وإذ أوحيت إليهم بواسطتك ، فدعوتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله ، واستجابوا لك وانقادوا وتابعوك ، فقالوا : ( آمنا واشهد بأننا مسلمون )

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية