الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 73 ] باب من لا يرث

                                                                                                                                            مسألة : قال المزني - رحمه الله تعالى - : وهو من قول الشافعي : " لا ترث العمة ، والخالة ، وبنت الأخ ، وبنت العم ، والجدة أم أب الأم ، والخال ، وابن الأخ لأم ، والعم أخو الأب للأم ، والجد أبو الأم ، وولد البنت ، وولد الأخت ، ومن هو أبعد منهم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وإنما بدأ الشافعي بذوي الأرحام لأنهم عنده لا يرثون مع وجود بيت المال ، فبدأ بهم لتقديمه ذكر من لا يرث من الكافرين والمملوكين ، وذوو الأرحام هم من ليس بعصبة ولا ذي فرض على ما سنذكره من عددهم وتفصيل أحوالهم ، وقد اختلف الصحابة والتابعون والفقهاء في توزيعهم إذا كان بيت المال موجودا ، فذهب الشافعي إلى أنه لا ميراث لهم وأن بيت المال أولى منهم ، وبه قال من الصحابة زيد بن ثابت وإحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما .

                                                                                                                                            ومن الفقهاء مالك وأكثر أهل المدينة والأوزاعي وأكثر أهل الشام وداود بن علي .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : ذوو الأرحام أولى بالميراث من بيت المال .

                                                                                                                                            وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وإحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم .

                                                                                                                                            ومن التابعين عمر بن عبد العزيز ، والحسن البصري ، وشريح ، والشعبي ، وطاوس ، ومن الفقهاء أهل العراق ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، غير أن أبا حنيفة قدم المولى على ذوي الأرحام وخالفه تقدمه ، فقدموا ذوي الأرحام على المولى ، واستدلوا على توريث ذوي الأرحام بقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله [ الأحزاب : 6 ] فلم يجز أن يدفعوا عن الميراث وقد جعلهم الله تعالى أولى به ، ولرواية طاوس عن عائشة - رضى الله عنهما - وأبي أمامة عن عمر جميعا - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الله ورسوله مولى من لا مولى له ، والخال وارث من لا وارث له " وبرواية المقداد بن [ ص: 74 ] معديكرب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الخال وارث من لا وارث له " .

                                                                                                                                            وبرواية واسع بن حبان قال : توفي ثابت بن الدحداح ولم يدع وارثا ولا عصبة ، فرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنه عاصم بن عدي : هل ترك من أحد ؟ فقال : ما نعلم يا رسول الله ، ترك أحدا فدفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماله إلى ابن أخته أبي لبابة بن عبد المنذر ، ورواية الزهري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : العم والد إذا لم يكن دونه أب ، والخالة والدة إذا لم يكن دونها أم قالوا : ولأن كل من أدلى بوارث كان وارثا كالعصبات ، وقالوا : ولأن اختصاص ذوي الأرحام بالرحم لا يوجب سقوط إرثهم كالجدة ، قالوا : ولأن ذوي الأرحام قد شاركوا المسلمين في الإسلام وفضلوهم بالرحم ، فوجب أن يكونوا أولى منهم بالميراث كالمعتق لما ساوى كافة المسلمين في الإسلام وفضل عليهم بالعتق وصار أولى منهم بالميراث وكالأخ للأب والأم لما ساوى الأخ للأب وفضله بالأم كان أولى بالإرث .

                                                                                                                                            ودليلنا : رواية شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث فأشار إلى ما في القرآن من المواريث وليس فيه لذوي الأرحام شيء .

                                                                                                                                            وروى عطاء بن يسار : أتى رجل من أهل العالية فقال : يا رسول الله ، إن رجلا هلك وترك عمه وخاله ، فقال اللهم رجل ترك عمه وخاله ، ثم سكت هنيهة ، ثم قال لا أرى نزل علي شيء ، لا شيء لهما .

                                                                                                                                            وروى زيد بن أسلم عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب إلى قباء يستخير الله تعالى في العمة والخالة ، فنزل عليه أن لا ميراث لهما .

                                                                                                                                            وروى عمران بن سليمان أن رجلا مات فأتت بنت أخته النبي - صلى الله عليه وسلم - في الميراث ، فقال : لا شيء لك ، اللهم من منعت ممنوع ، اللهم من منعت ممنوع .

                                                                                                                                            ثم الدليل من طريق المعنى هو أن مشاركة الأنثى لأخيها أثبتت في الميراث في انفرادها ، ألا ترى أن بنات الابن يسقطن مع البنين ، وإن شاركهن ذكورهن وصرن به عصبة ، فلما كان بنات الإخوة والأعمام يسقطون مع إخوتهن كان أولى أن يسقطن بانفرادهن ، وتحريره [ ص: 75 ] قياسا أن كل أنثى أسقطها من في درجتها بالإدلاء سقطت بانفرادها كابنة المولى ، ولأن كل من أسقطه المولى لم يرث بانفراده كالعبد والكافر ، ولأن كل ولادة لم يحجب بها الزوجين إلى أقل الفرضين لم يورث بها كالولادة من زنا ، ولأنه وارث فوجب أن يكون من مناسبه من لا يرث كالمولى يرث ابنه ولا يرث بنته ، ولأن المسلمين يعقلون عنه فوجب أن يسقط بهم ذوو الأرحام كالمولى .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [ الأنفال : 75 ] فمن أربعة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن المقصود بالآية نسخ التوارث بالحلف والهجرة ولم يرد بهما أعيان من يستحق الميراث من المناسبين لنزولهما قبل آي المواريث .

                                                                                                                                            والثاني : أن قولهم بعضهم أولى ببعض دليل على أن ما سوى ذلك البعض ليس بأولى : لأن التبعيض يمنع من الاستيعاب .

                                                                                                                                            والثالث : أنه قال في كتاب الله وكان ذلك مقصورا على ما فيه وليس لهم فيه ذكر ، فدل على أن ليس لهم في الميراث حق .

                                                                                                                                            والرابع : أن قوله أولى محمول على ما سوى الميراث من الحصانة وما جرى مجراها دون الميراث إذ ليس في الآية ذكر ما هم به أولى .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : الخال وارث من لا وارث له فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن هذا الكلام موضوع في لسان العرب للسلب والنفي لا للإثبات ، وتقديره أن الخال ليس بوارث كما تقول العرب : الجوع طعام من لا طعام له ، والدنيا دار من لا دار له ، والصبر حيلة من لا حيلة له ، يعني أن ليس طعام ولا دار ولا حيلة .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أنه جعل الميراث للخال الذي يعقل ، وإنما يعقل إذا كان عصبة ونحن نورث الخال إذا كان عصبة ، وإنما الاختلاف في خال ليس بعصبة ، فكان دليل اللفظ يوجب سقوط ميراثه .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن دفعه ميراث أبي الدحداح إلى ابن أخته فهو أنه أعطاه ذلك لمصلحة رآها لا ميراثا : لأنه لما قيل لا وارث له دفعه إليه على أنها قضية عين قد يجوز أن يخفى سببها ، فلا يجوز ادعاء العموم فيها ، وكان ذلك كالذي رواه عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس أن رجلا مات ولم يدع وارثا إلا غلاما له كان أعتق فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل له أحد ؟ قالوا لا إلا غلاما له كان أعتقه ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميراثه له ومعلوم أنه لا يستحق ميراثا ، لكن فعل ذلك لمصلحة رآها .

                                                                                                                                            وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : مات رجل من خزاعة [ ص: 76 ] فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بميراثه فقال : التمسوا له وارثا أو ذات رحم . فلم يجدوا له وارثا ولا ذات رحم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أعطوه الكبر من خزاعة ، فميز - صلى الله عليه وسلم - بين الوارث وذي الرحم ، فدل على أنه غير وارث ، ثم دفع ميراثه إلى الكبر من قومه وليس ذلك بميراث مستحق ، وهكذا ما دفعه إلى ابن الأخت والخال : لأنه رأى المصلحة في إعطائهم أظهر منها في إعطاء غيرهم ، وأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : الخالة والدة إذا لم يكن دونها أم فهو أنه محمول على ما سوى الميراث من الحضانة ، وإلا فليست الخالة كالأم عند عدمها في الميراث إذا كان هناك وارث فعلم أن مراده به غير الميراث ، فأما قياسهم بعلة أنه يدلي بوارث فمنتقض ببنت المولى ، ثم المعنى في العصبة تقديم على المولى .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الجدة فالمعنى فيها أنها لما شاركت العصبة كانت وارثة وليس ذوو الأرحام مثلها .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم إنهم ساووا جميع المسلمين وفضلوهم بالرحم فهو أنه استدلال يفسد ببنت المولى : لأنها قد فضلتهم مع المساواة ، ثم لا تقدم عليهم على أن المسلمين فضلوهم بالتعصب لأنهم يعقلون وكانوا أولى بالميراث ، فإن قيل : لا يجوز أن يكون المسلمون ورثته لجواز وصيته لهم والوصية لا تجوز لوارث ، قيل : هذا باطل بمن لا وارث له : لأن المسلمين ورثته بإجماع ، وتجوز الوصية لكل واحد منهم على أن الوصية إنما لا تجوز لوارث معين وليس في المسلمين من يتعين في استحقاق ميراثه : لأنه معروف في مصالح جميعهم ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية