الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 224 ] المسألة الثالثة عشرة

              مر الكلام فيما يفتقر إليه المجتهد من العلوم ، وأنه إذا حصلها فله الاجتهاد بالإطلاق .

              وبقي النظر في المقدار الذي إذا وصل إليه فيها توجه عليه الخطاب بالاجتهاد بما أراه الله ، وذلك أن طالب العلم إذا استمر في طلبه مرت عليه أحوال ثلاثة :

              أحدها : أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ ، والبحث عن أسبابه ، وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى ما حصل ، لكنه مجمل بعد ، وربما ظهر له في بعض أطراف المسائل جزئيا لا كليا ، وربما لم يظهر بعد ، فهو ينهي البحث نهايته ومعلمه عند ذلك يعينه بما يليق به في تلك الرتبة ، ويرفع عنه أوهاما وإشكالات تعرض له في طريقه ، يهديه إلى مواقع إزالتها ويطارحه في الجريان على مجراه ، مثبتا قدمه ، ورافعا وحشته ، ومؤدبا له حتى يتسنى له النظر والبحث على الصراط المستقيم .

              فهذا الطالب حين بقائه هنا ، ينازع الموارد الشرعية وتنازعه ، ويعارضها وتعارضه ، طمعا في إدراك أصولها ، والاتصال بحكمها ومقاصدها ، ولم تتلخص له بعد - لا يصح منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه ؛ لأنه لم يتخلص له مستند الاجتهاد ، ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه ، فاللازم له الكف والتقليد .

              [ ص: 225 ] والثاني : أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق معنى ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي ، بحيث يحصل له اليقين ، ولا يعارضه شك ، بل تصير الشكوك - إذا أوردت عليه - كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه ، فهو يتعجب من المتشكك في محصوله كما يتعجب من ذي عينين لا يرى ضوء النهار ، لكنه استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكما ، وإن كان موجودا عنده ، فلا يبالي في القطع على المسائل ، أنص عليها أو على خلافها أم لا .

              فإذا حصل الطالب على هذه المرتبة ، فهل يصح منه الاجتهاد في الأحكام الشرعية أم لا ؟ هذا محل نظر والتباس ، ومما يقع فيه الخلاف .

              [ ص: 226 ] وللمحتج للجواز أن يقول : إن المقصود الشرعي إذا كان هذا الطالب قد صار له أوضح من الشمس ، وتبينت له معاني النصوص الشرعية حتى التأمت ، وصار بعضها عاضدا للبعض ، ولم يبق عليه في العلم بحقائقها مطلب ، فالذي حصل عنده هو كلية الشريعة ، وعمدة النحلة ، ومنبع التكليف ، فلا عليه أنظر في خصوصياتها المنصوصة أو مسائلها الجزئية أم لا ، إذ لا يزيده النظر في ذلك زيادة ، إذ لو كان كذلك لم يكن واصلا بعد إلى هذه المرتبة ، وقد فرضناه واصلا ، هذا خلف .

              ووجه ثان ، وهو أن النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك المطلوب الكلي الشرعي ، حتى يبني عليه فتياه ، ويرد إليه حكم اجتهاده ، فإذا كان حاصلا فالتنزل إلى الجزئيات طلب لتحصيل الحاصل ، وهو محال .

              ووجه ثالث ، وهو أن كلي المقصود الشرعي إنما انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصيات وبمعانيها ترقى إلى ما ترقى إليه ، فإن تكن في الحال [ ص: 227 ] غير حاكمة عنده لاستيلاء المعنى الكلي ، فهي حاكمة في الحقيقة ؛ لأن المعنى الكلي منها انتظم ، ولأجل ذلك لا تجد صاحب هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر إلا وقامت له الأدلة الجزئية عاضدة وناصرة ، ولو لم يكن كذلك لم تعضده ولا نصرته ، فلما كان كذلك ثبت أن صاحب هذه المرتبة متمكن جدا من الاستنباط والاجتهاد ، وهو المطلوب .

              وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه :

              - منها أن صاحب هذه المرتبة إذا فاجأته حقائقها ، وتعاضدت مراميها ، واتصل له بالبرهان ما كان منها عنده مقطوعا حتى صارت الشريعة في حقه أمرا متحدا ، ومسلكا منتظما ، لا يزل عنه من مواردها فرد ، ولا يشذ له عن الاعتبار منها خاص إلا وهو مأخوذ بطرف لا بد من اعتباره عن طرف آخر لا بد أيضا من اعتباره ؛ إذ قد تبين في كتاب الأدلة أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس ، وإذا كان كذلك لم يستحق من هذا حاله أن يترقى إلى درجة الاجتهاد حتى يكمل ما يحتاج إلى تكميله .

              ومنها : أن للخصوصيات خواص يليق بكل محل منها ما لا يليق بمحل [ ص: 228 ] آخر كما في النكاح مثلا ، فإنه لا يسوغ أن يجري مجرى المعاوضات من كل وجه ، كما أنه لا يسوغ أن يجري مجرى الهبات والنحل من كل وجه ، وكما في مال العبد ، وثمرة الشجرة ، والقرض ، والعرايا ، وضرب الدية على العاقلة ، والقراض ، والمساقاة ، بل لكل باب ما يليق به ، ولكل خاص خاصية تليق به لا تليق بغيره ، وكما في الترخصات في العبادات ، والعادات ، وسائر الأحكام .

              وإذا كان كذلك - وقد علمنا أن الجميع يرجع مثلا إلى حفظ الضروريات ، والحاجيات ، والتكميليات - فتنزيل حفظها في كل محل على وجه واحد لا يمكن ، بل لا بد من اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب ، وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية ، فمن كانت عنده الخصوصيات في حكم التبع الحكمي ، لا في حكم المقصود العيني بحسب كل نازلة ، فكيف يستقيم له جريان ذلك الكلي ، وأنه هو مقصود الشارع ؟ هذا لا يستمر مع الحفظ على مقصود الشارع .

              - ومنها : أن هذه المرتبة يلزمها إذا لم يعتبر الخصوصيات ألا يعتبر محالها ، وهي أفعال المكلفين ، بل كما يجري الكليات في كل جزئية على [ ص: 229 ] الإطلاق يلزمه أن يجريها في كل مكلف على الإطلاق من غير اعتبار بخصوصياتهم ، وهذا لا يصح كذلك على ما استمر عليه الفهم في مقاصد الشارع ، فلا يصح مع هذا إلا اعتبار خصوصيات الأدلة ، فصاحب هذه المرتبة لا يمكنه التنزل إلى ما تقتضيه رتبة المجتهد ، فلا يستقيم مع هذا أن يكون من أهل الاجتهاد .

              وإذا تقرر أن لكل احتمال مأخذا كانت المسألة بحسب النظر الحقيقي فيها باقية الإشكال .

              ومن أمثلة هذه المرتبة مذهب من نفى القياس جملة ، وأخذ بالنصوص على الإطلاق ، ومذهب من أعمل القياس على الإطلاق ولم يعتبر ما خالفه من الأخبار جملة ، فإن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام اطرد له في جملة الشريعة اطرادا لا يتوهم معه في الشريعة نقص ولا تقصير ، بل على مقتضى قوله : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] .

              [ ص: 230 ] فصاحب الرأي يقول : الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم ، وعلى ذلك دلت أدلتها عموما وخصوصا ، دل على ذلك الاستقراء ، فكل فرد جاء مخالفا فليس بمعتبر شرعا ؛ إذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر مما لا يعتبر ، لكن على وجه كلي عام ، فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام ؛ لأن دليله قطعي ، ودليل الخاص ظني ، فلا يتعارضان .

              والظاهري يقول : الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملا ، ومصالحهم تجري على حسب ما أجراها الشارع ، لا على حسب أنظارهم ، فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإصابة ، من حيث إن الشارع إنما تعبدنا بذلك ، واتباع المعاني رأي ، فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر ؛ لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة ، والخاص الظني لا يعارض العام القطعي .

              فأصحاب الرأي جردوا المعاني ، فنظروا في الشريعة بها ، واطرحوا خصوصيات الألفاظ ، والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ ، فنظروا في الشريعة بها ، واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية ، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة .

              [ ص: 231 ] ويمكن أن يرجع إلى هذا القبيل ما خرج ثابت في الدلائل عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال : وجدت في كتاب جدي : أتيت مكة ، فأصبت بها أبا حنيفة ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، فأتيت أبا حنيفة فقلت له : ما تقول في رجل باع بيعا واشترط شرطا ؟ قال : البيع باطل ، والشرط باطل ، وأتيت ابن أبي ليلى ، فقال : البيع جائز ، والشرط باطل ، وأتيت ابن شبرمة ، فقال : البيع جائز ، والشرط جائز ، فقلت : سبحان الله ! ثلاثة من فقهاء الكوفة يختلفون علينا في مسألة ، فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما ، فقال : لا أدري ما قالا ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط ، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بقولهما ، فقال : لا أدري ما قالا ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اشتري بريرة ، واشترطي لهم الولاء ، فإن الولاء لمن أعتق فأجاز البيع وأبطل الشرط ، فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بقولهما ، فقال : ما أدري ما قالاه ، حدثني مسعود بن حكيم ، عن محارب بن دثار ، عن جابر بن عبد الله قال : " اشترى مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقة فشرطت حملاني " فأجاز البيع والشرط . اهـ .

              [ ص: 232 ] فيجوز أن يكون كل واحد منهم اعتمد في فتياه على كلية ما استفاد من حديثه ، ولم ير غيره من الجزئيات معارضا ، فاطرح الاعتماد عليه ، والله أعلم .

              والحال الثالث : أن يخوض فيما خاض فيه الطرفان ، ويتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية ، بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر ، فلا هو يجري على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر ، ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين ، فهو في الحقيقة راجع إلى الرتبة التي ترقى منها ، لكن بعلم المقصود الشرعي في كل جزئي فيها عموما وخصوصا .

              وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها ، وحاصله أنه متمكن فيها ، حاكم لها ، غير مقهور فيها ، بخلاف ما قبلها ، فإن صاحبها محكوم عليه فيها ، ولذلك قد تستفزه معانيها الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات ، وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على عدم رسوخه فيها ، وإن كانت محكوما [ ص: 233 ] عليها تحت نظره وقهره ، فهو صاحب التمكين والرسوخ ، فهو الذي يستحق الانتصاب للاجتهاد ، والتعرض للاستنباط ، وكثيرا ما يختلط أهل الرتبة الوسطى بأهل هذه الرتبة ، فيقع النزاع في الاستحقاق أو عدمه ، والله أعلم .

              ويسمى صاحب هذه المرتبة : الرباني ، والحكيم ، والراسخ في العلم ، والعالم ، والفقيه ، والعاقل ؛ لأنه يربى بصغار العلم قبل كباره ، ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به ، وقد تحقق بالعلم ، وصار له كالوصف المجبول عليه ، وفهم عن الله مراده من شريعته .

              ومن خاصيته أمران :

              أحدهما : أنه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص ، بخلاف صاحب الرتبة الثانية ، فإنه إنما يجيب من رأس الكلية من غير اعتبار بخاص .

              والثاني : أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات ، وصاحب الثانية لا ينظر في ذلك ، ولا يبالي بالمآل إذا ورد عليه أمر أو نهي أو غيرهما ، وكان في مساقه كليا ، ولهذا الموضع أمثلة كثيرة تقدم منها جملة في مسألة الاستحسان ومسألة اعتبار المآل ، وفي مذهب مالك من ذلك كثير .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية