الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فالمقصود الصريح هو ما دلت عليه النصوص ، فإذا أبطله بالتأويل فلم يبق معه صحيح يحتج به على خصمه كما لم يبق معه منقول صريح ، فإنه قد عرض المنقول للتأويل ، والمعقول الصريح خرج عنه بالذي ظن أنه معقول .

ومثال هذا أن العقل الصحيح الذي لا يكذب ولا يغلط قد حكم حكما لا يقبل الغلط أن كل ذاتين قائمتين بأنفسهما إما أن تكون كل منهما مباينة للأخرى أو محايثة لها ، وأنه يمتنع أن تكون هذه الذات قائمة بنفسها ، وإحداهما ليست فوق الأخرى ، ولا تحتها ، ولا عن يمينها ولا عن يسارها ولا محايثة ولا داخلة فيها ولا خارجة عنها ، فإذا خولف مقتضى هذا المعقول الصريح ودفع موجبه ، فأي دليل عقلي احتج به المخالف بعد هذا على مبطل أمكنه دفعه هو به حكم هذا العقل .

[ ص: 96 ] الوجه الأربعون : أن الأدلة القاطعة قد قامت على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به ، ودلالتها على صدقه أبين وأظهر من دلالة الشبه العقلية على نقيض ما أخبر به عند كافة العقلاء ، ولا يستريب في ذلك إلا مصاب في عقله وفطرته ، فأين الشبه النافية لعلو الله على خلقه ، وتكلمه بمشيئته ، وتكليمه لخلقه ، ولصفات كماله ، ولرؤيته بالأبصار في الآخرة ولقيام أفعاله به ، إلى براهين نبوته التي زادت على الألف وتنوعت كل التنوع ، فكيف يقدح في البراهين العقلية الضرورية بالشبه الخالية المتناقضة ؟ وهل ذلك إلا من جنس الشبه التي أوردوها في التشكيك في الحسيات والبدهيات ، فإنها وإن عجز كثير من الناس عن حلها فهم يعلمون أنها قدح فيما علموه بالحس والاضطرار ، فمن قدر على حلها وإلا لم يتوقف حزمه بما علمه بحسه واضطراره على حلها .

وكذلك الحال في الشبه التي عارضت ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم سواء ، فإن المصدق به وبما جاء به يعلم أنها لا تقدح في صدقه ولا في الإيمان به ، فإن عجز عن حلها فإن تصديقه بما جاء به الرسول ضروري ، وهذه الشبهة عنده لا تزيل ما علمه بالضرورة ، فكيف إذا تبين بطلانها على التفصيل ؟ يوضحه :

الوجه الحادي والأربعون : وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين مراده ، وقد تبين أكثر مما تبين لنا كثير من دقائق المعقولات الصحيحة ، ومعرفتنا بمراد الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه فوق معرفتنا بتلك الدقائق إذا كانت صحيحة المقدمات في نفسها صادقة النتيجة غير كاذبة ، فكيف إذا كان الأمر فيها بخلاف ذلك ; فتلك التي تسمى معقولات قد تكون خطأ ولكن لم يتفطن لخطئها ، وأما كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم فقد قام البرهان القاطع على صدقه ، ولكن قد يحصل الغلط في فهمه فيفهم منه ما يخالف صريح العقل ، فيقع التعارض بين ما فهم من النقل وبين ما اقتضاه صريح العقل ، فهذا لا يدفع ، ولكن إذا تأمله من وهبه الله حسن القصد وصحة التصور تبين له أن المعارضة واقعة بين ما فهمه النفاة من النصوص وبين العقل الصريح ، وأنها غير واقعة بين ما دل عليه النقل وبين العقل .

ومن أراد معرفة هذا فليوازن بين مدلول النصوص وبين العقل الصريح ليتبين له مطابقة أحدهما للآخر ، ثم يوازن بين أقوال النفاة وبين العقل الصريح ، فإنه يتبين له حينئذ أن النفاة أخطأوا خطأين : خطأ على السمع ، فإنهم فهموا منه خلاف مراد المتكلم ، وخطأ على العقل بخروجهم عن حكمه .

[ ص: 97 ] الثاني والأربعون : أن المعارضين بين العقل والنقل الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم قد اعترفوا بأن العلم بانتفاء المعارض مطلقا لا سبيل إليه ، إذ ما من معارض نفسه إلا ويحتمل أن يكون له معارض آخر ، وهذا مما اعتمد صاحب نهاية العقول وجعل السمعيات لا يحتج بها على العلم بحال ، وحاصل هذا أنا لا نعلم ثبوت ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نعلم انتفاء ما يعارضه ، ولا سبيل إلى العلم بانتفاء المعارض مطلقا لما تقدم ، وأيضا فلا يلزم من انتفاء العلم بالمعارض ، ولا ريب أن هذا القول أفسد أقوال العالم ، وهو من أعظم أصول أهل الإلحاد والزندقة ، وليس في عزل الوحي عن رتبته أبلغ من هذا .

الثالث والأربعون : أن الله سبحانه قد أخبر في كتابه أن ما على الرسول إلا البلاغ المبين فقال تعالى : ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) وقال تعالى : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) وقال تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) وقد شهد الله له وكفى بالله شهيدا بالبلاغ الذي أمر به فقال : ( فتول عنهم فما أنت بملوم ) وشهد له أعقل الخلق وأعلمهم وأفضلهم بأنه قد بلغ ، فأشهد الله عليهم بذلك في أعظم مجمع وأفضله ، فقال في خطبته في عرفات في حجة الوداع : " إنكم مسئولون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فرفع إصبعه إلى السماء مستشهدا بربه الذي فوق سماواته ، وقال : " اللهم اشهد " فلو لم يكن عرف المسلمون وتيقنوا ما أرسل به وحصل لهم منه العلم واليقين ، لم يكن قد حصل منه البلاغ المبين ، ولما رفع عنه اللوم ، وغاية ما عند النفاة أنه يفهمهم ألفاظا لا تفيدهم علما ولا يقينا ، وأحالهم في طلب العلم واليقين على عقولهم وفطرهم وآرائهم ، لا على ما أوحي إليه ، هذا معلوم البطلان بالضرورة .

الرابع والأربعون : أن عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل عقول أهل الأرض على [ ص: 98 ] الإطلاق فلو وزن عقله بعقولهم لرجحها ، وقد أخبر الله أنه قبل الوحي لم يكن يدري ما الإيمان ، كما لم يكن يدري ما الكتاب ، فقال الله تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) وقال تعالى : ( ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى ) وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر سورة الشورى ، فإذا كان أعقل الخلق على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي كما قال تعالى : ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب ) فكيف يحصل لسفهاء العقول وأخفاء الأحلام الاهتداء إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون نصوص الوحي ، حتى اهتدوا بتلك الهداية إلى المعارضة بين العقل ونصوص الأنبياء ( لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) .

الخامس والأربعون : أن الله سبحانه إنما أقام الحجة على خلقه بكتابه ورسله ، فقال تعالى : ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) وقال تعالى : ( وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) فكل من بلغه هذا القرآن فقد أنذر به وقامت عليه حجة الله ، وقال تعالى : ( وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) وقال تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) وقال تعالى : ( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) فلو كان كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين والعلم ، والعقل معارض له ، فأي حجة تكون قد قامت على المكلفين بالكتاب والرسل ، وهل هذا القول إلا مناقض لإقامة حجة الله بكتابه من كل وجه ؟

الوجه السادس والأربعون : أنه سبحانه بين لعباده بأنه يبين لهم غاية البيان ، وأمر رسوله بالبيان ، وأخبر أنه أنزل عليه كتابه ليبين للناس ، ولهذا قال الزهري : ( من الله [ ص: 99 ] البيان ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم ) فهذا البيان الذي تكفل به سبحانه وأمر به رسوله إما أن يكون المراد به بيان اللفظ وحده ، أو المعنى وحده ، أو اللفظ والمعنى جميعا ، ولا يجوز أن يكون المراد بيان اللفظ دون المعنى ، فإن هذا لا فائدة فيه ، ولا يحصل به مقصود الرسالة ، وبيان المعنى وحده بدون دليله ، وهو اللفظ الدال عليه ، ممتنع ، فعلم أن المراد بيان اللفظ والمعنى ، فكما نقطع أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين اللفظ فكذلك نتيقن أنه بين المعنى ، بل كانت عنايته ببيان المعنى أشد من عنايته ببيان اللفظ ، وهذا هو الذي ينبغي ، فإن المعنى هو المقصود ، وأما اللفظ فوسيلة إليه ، فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود ، وكيف يتيقن بيانه للوسيلة ولا يتيقن بيانه للمقصود ؟ وهل هذا إلا من أبين المحال ؟ فإن جاز عليه أن لا يبين المراد من ألفاظ القرآن جاز عليه أن لا يبين بعض ألفاظه ، فلو كان المراد منها خلاف حقائقها وظواهرها دون مدلولاتها ، وقد كتمه عن الأمة ولم يبينه لها ، كان ذلك قدحا في رسالته وعصمته ، وفتحا للزنادقة من الرافضة وغيرهم باب كتمان بعض ما أنزل الله ، وهذا مناف للإيمان به وبرسالته ، يوضحه :

الوجه السابع والأربعون : أن القائل بأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين ، إما أن يقول : إنها تفيد ظنا أو لا تفيد علما ولا ظنا ، فإن قال : لا تفيد علما ولا ظنا فهو مع مكابرته للعقل والسمع والفطرة الإنسانية من أعظم الناس كفرا وإلحادا ، وإن قال : بل تفيد ظنا غالبا وإن لم تفد يقينا ، قيل له : فالله تعالى قد ذم الظن المجرد وأهله فقال تعالى : ( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) فأخبر أن الظن لا يوافق الحق ولا يطابقه ، وقال تعالى : ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) وقال أهل النار : ( إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ) فلو كان ما أخبر الله به عن أسمائه وصفاته واليوم الآخر ، وأحوال الأمم وعقوباتهم ، لا تفيد إلا ظنا لكان المؤمنون إن يظنون إلا ظنا وما هم بمستيقنين ، ولكان قوله تعالى : ( وبالآخرة هم يوقنون ) خبرا غير مطابق ، فإن علمهم بالآخرة إنما استفادوه من الأدلة اللفظية ، لا سيما وجمهور المتكلمين يصرحون بأن المعاد إنما علم بالنقل ، فإذا [ ص: 100 ] كان النقل لا يفيد يقينا لم يكن في الأمة من يوقن بالآخرة ، إذ الأدلة العقلية لا مدخل لها فيها ، وكفى بهذا بطلانا وفسادا .

والله تعالى لم يكتف من عباده بالظن بل أمرهم بالعلم كقوله : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) وقوله : ( اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ) وقوله : ( واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ) ونظائر ذلك ، وإنما يجوز اتباع الظن في بعض المواضع للحاجة ، كحادثة يخفى على المجتهد حكمها ، أو في الأمور الجزئية كتقويم السلع ونحوه ، وأما ما بينه الله في كتابه على لسان رسوله فمن لم يتيقنه بل ظنه ظنا ، فهو من أهل الوعيد ليس من أهل الإيمان ، فلو كانت الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين لكان ما بينه الله ورسوله بالكتاب والسنة لم يتيقنه أحد من الأمة .

الثامن والأربعون : قوله : إن العلم بمدلول الأدلة اللفظية موقوف على نقل اللغة ، كلام ظاهر البطلان ، فإن دلالة القرآن والسنة على معانيها من جنس دلالة لغة كل قوم على ما يعرفونه ويعتادونه من تلك اللغة ، وهذا لا يختص بالعرب ، بل هو أمر ضروري لجميع بني آدم ، إنما يتوقف العلم بمدلول ألفاظهم على كونهم من أهل تلك اللغة التي وقع بينهم بها التخاطب ، ولهذا لم يرسل الله رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم ، فتقوم عليهم الحجة بما فهموه من خطابه لهم ، فدلالة اللفظ هي العلم بقصد المتكلم به . ويراد بالدلالة أمران : فعل الدال ، وكون اللفظ بحيث يفهم معنى ، ولهذا يقول دله بكلامه دلالة ، ودل الكلام على هذا دلالة ، فالمتكلم دال بكلامه ، وكلامه دال بنظامه ، وذلك يعرف من عادة المتكلم في ألفاظه ، فإذا كانت عادته أنه يعني بهذا اللفظ هذا المعنى ، علمنا متى خاطبنا به أنه أراده من وجهين : أحدهما : أن دلالة اللفظ مبناها على عادة المتكلم التي يقصدها بألفاظه ، وكذا على مراده بلغته التي عادته أن يتكلم بها ، فإذا عرف السامع ذلك المعنى وعرف أن عادة المتكلم إذا تكلم بذلك اللفظ أن يقصده ، علم أنه مراده قطعا ، وإلا لم يعلم مراد متكلم أبدا ، وهو محال .

الثاني : أن المتكلم إذا كان قصده إفهام المخاطبين كلامه وعلم المخاطب السامع اليقين بمراده ، ولم يشك فيه ، ولو تخلف عنه العلم لكان ذلك قادحا في أحد [ ص: 101 ] العلمين ، إما قادحا في علمه في موضوع ذلك اللفظ ، وإما في علمه بعبارة المتكلم به وصفاته وقصده ، فمتى عرف موضوعه عادة المتكلم به أفاده ذلك القطع ، يوضحه :

التاسع والأربعون : أن السامع متى سمع المتكلم يقول : لبست ثوبا ، وركبت فرسا ، وأكلت لحما ، وهو عالم بمدلول هذه الألفاظ من عرف المتكلم ، وعالم أن المتكلم لا يقصد بقوله : لبست ثوبا معنى ذبحت شاة ، ولا من قوله : ركبت فرسا معنى لبست ثوبا ، علم مراده قطعا ، فإنه يعلم أن قصد خلاف ذلك عد ملبسا مدلسا لا مبينا مفهما ، وهذا مستحيل على الله ورسوله أعظم استحالة وإن جاز على أهل التخاطب فيما بينهم .

فإذا إفادة كلام الله ورسوله اليقين فوق استفادة ذلك من كلام كل متكلم ، وهذا أدل على كلام الله ورسوله من دلالة كلام غيره على مراده ، وكلما كان السامع أعرف بالمتكلم وقصده وبيانه وعادته ، كانت استفادته للعلم بمراده أكمل وأتم .

الخمسون : أن قوله : " إن فهم الدلالة اللفظية موقوف على نقل النحو والتصريف " جوابه أن القرآن قد نقل إعرابه كما نقلت ألفاظه ومعانيه ، لا فرق في ذلك كله ، فألفاظه متوافرة وإعرابه متواتر ، ونقل معانيه أظهر من نقل ألفاظه وإعرابه ، كما تقدم بيانه ، ونقل جميع ذلك بالتواتر أصح من نقل كل لغة نقلها ناقل على وجه الأرض ، وقواعد الإعراب والتصريف الصحيحة مستفادة منه ، مأخوذة عن إعرابه وتصريفه ، وهو الشاهد على صحة غيرها مما يحتج له بها ، فهو الحجة لها والشاهد ، وشواهد الإعراب والمعاني منه أقوى وأصح من الشواهد من غيره ، حتى إن فيه من قواعد الإعراب وقواعد المعاني والبيان ما لم يشتمل عليه ضوابط النحاة وأهل علم المعاني ، فبطل قول هؤلاء : إن الأدلة اللفظية تتوقف دلالتها على عصمة رواة مفردات تلك الألفاظ ، يوضحه :

الحادي والخمسون : هب أنه يحتاج إلى نقل ذلك ، لكن عامة ألفاظ القرآن منقول معناها وإعرابها بالتواتر ، لا يحتاج الناس فيه إلى نقل عن أهل العربية كالخليل ، وسيبويه ، والأصمعي ، وأبى عبيدة ، والكسائي ، والفراء ، حتى الألفاظ الغريبة في القرآن مثل " ابتلوا " و " قسمة ضيزى " و " عسعس " ونحوها ، معانيها [ ص: 102 ] منقولة في اللغة بالتواتر لا يختص بنقلها الواحد والاثنان ، فلم تتوقف دلالتها على عصمة رواة معانيها ، فكيف في الألفاظ الشهيرة كالشمس ، والقمر ، والليل ، والنهار ، والبر ، والبحر ، والجبال ، فهذه الدعوى باطلة في الألفاظ الغريبة والشهيرة ، يوضحه :

الوجه الثاني والخمسون : أن أصحاب هذا القانون قالوا : أظهر الألفاظ لفظ ( الله ) وقد اختلف الناس فيه أعظم اختلاف ، هل هو مشتق أم لا ؟ وهل هو مشتق من التأليه أو من الوله أو من لاه إذا احتجب ، وكذلك اسم الصلاة وفيه من الاختلاف ما فيه ، هل مشتق من الدعاء أو من الاتباع ، أو من تحريك الصلوين ، فإذا كان هذا في أظهر الأسماء فما الظن بغيره .

فتأمل هذا الوهم والإيهام واللبس والتلبيس ، فإن جميع أهل الأرض علمائهم وجهلائهم ، ومن يعرف الاشتقاق ومن لا يعرفه ، وعربهم وعجمهم يعلمون أن ( الله ) اسم لرب العالمين ، خالق السماوات والأرض ، الذي يحيي ويميت ، وهو رب كل شيء ومليكه ، فهم لا يختلفون في أن هذا الاسم يراد به هذا المسمى ، وهو أظهر عندهم وأعرف وأشهر من كل اسم وضع لكل مسمى ، وإن كان الناس متنازعين في اشتقاقه فليس ذلك بنزاع منهم في معناه .

وكذلك الصلاة لم يتنازعوا في معناها الذي أراده الله ورسوله وإن اختلفوا في اشتقاقها ، وليس هذا نزاعا في وجه الدلالة عليه ، وكذلك قوله تعالى : ( يبين الله لكم أن تضلوا ) يقدره البصريون كراهة أن تضلوا ، والكوفيون لئلا تضلوا ، وكذلك اختلافهم في التنازع ، وأمثال ذلك ، إنما هو نزاع في وجه دلالة اللفظ على ذات المعنى ، مع اتفاقهم على أن المعنى واحد ، وهذا اللفظ لا يخرج اللفظ عن إفادته السامع اليقين بمسماه .

الثالث والخمسون : أن يقول : هذه الوجوه العشرة مدارها على حرف واحد ، وهو : أن الدليل اللفظي يحتمل أزيد من معنى واحد ، فلا يقطع بإرادة المعنى الواحد . فنقول : من المعلوم أن أهل اللغة لم يشرعوا للمتكلم أن يتكلم بما يريد به خلاف [ ص: 103 ] ظاهره إلا مع قرينة تبين المراد ، والمجاز إنما يدل مع القرينة بخلاف الحقيقة ، فإنها تدل مع التجرد ، وكذلك الحذف والإضمار لا يجوز إلا إذا كان في الكلام ما يدل عليه ، وكذلك التخصيص ليس لأحد أن يدعيه إلا مع قرينة تدل عليه ، فلا يسوغ العقلاء لأحد أن يقول : جاءني زيد ، وهو يريد ابن زيد إلا مع قرينة ، كما في قوله تعالى : ( واسأل القرية ) ، ( والعير ) عند من يقول : إنه من هذا الباب ، فإنه يقول : القرية والعير لا يسألان ، فعلم أنه أراد أهلها ، ومن جعل القرية للسكان والمسكن ، والعير اسما للركبان والمركوب ، لم يحتج إلى هذا التقدير .

وإذا كانت هذه الأنواع لا تجوز مع تجريد الكلام عن القرائن المبينة للمراد ، فحيث تجرد علمنا قطعنا أنه لم يرد بها ذلك ، وليس لقائل أن يقول : قد تكون القرائن موجودة ولا علم لنا بها ; لأن من القرائن ما يجب أن يكون لفظيا كمخصصات الأعداد وغيرها ، ومنها ما يكون معنويا كالقرائن الحالية والعقلية ، والنوعان لا بد أن يكونا ظاهرين للمخاطب ليفهم مع تلك القرائن مراد المتكلم ، فإذا تجرد الكلام عن القرائن فإن معناه المراد عند التجرد ، وإذا اقترنا بتلك القرائن فهم معناه المراد عند الاقتران ، فلم يقع لبس في الكلام المجرد ولا في الكلام المقيد ، إذ كل من النوعين مفهم لمعناه المختص به ، وقد اتفقت اللغة والشرع أن اللفظ المجرد إنما يراد به ما ظهر منه ، وإنما يقدر مع احتمال مجاز أو اشتراك أو حذف أو إضمار ونحوه وإنما يقع مع القرينة ، أما مع عدمها فلا ، والمراد على التقديرين ، يوضحه :

الرابع والخمسون : أن غاية ما يقال : إن في القرآن ألفاظا استعملت في معان لم تكن العرب تعرفها ، وهي الأسماء الشرعية كالصلاة والزكاة والاعتكاف ونحوها ، والأسماء الدينية كالإيمان والإسلام والكفر والنفاق ونحوها ، وأسماء مجملة لم يرد ظاهرها كالسارق والسارقة والزاني والزانية ونحوها ، وأسماء مشتركة كالقرء وعسعس ونحوها ، فهذه الأسماء لا تفيد اليقين بالمراد منها .

فيقال : هذه الأسماء جارية في القرآن على ثلاثة أنواع : نوع بيانه معه ، فهو مع [ ص: 104 ] بيانه يفيد اليقين بالمراد منه ، ونوع بيانه في آيات أخرى ، فيستفاد اليقين من مجموع الآيتين ، ونوع بيانه موكل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيستفاد اليقين من المراد منه ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم ولم نقل نحن ولا أحد من العقلاء : إن كل لفظ هو مفيد اليقين بالمراد منه بمجرده من غير احتياج إلى لفظ آخر متصلا به أو منفصلا عنه ، بل نقول : إن مراد المتكلم يعلم من لفظه المجرد منه والمقرون تارة ، ومنه من لفظ آخر يفيدان اليقين بمراده تارة ، ومنه ومن بيان آخر بالفعل أو القول يحيل المتكلم عليه تارة ، وليس في القرآن خطاب أريد منه العلم بمدلوله إلا وهو داخل في هذه الأقسام ، فالبيان المقترن كقوله : ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) وكقوله : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) وقوله : ( فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ) ونظائر ذلك ، والبيان المنفصل كقوله : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) وقوله : ( وفصاله في عامين ) مع قوله : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) فأفاد مجموع اللفظين البيان بأن مدة أقل الحمل ستة أشهر .

وكذلك قوله : ( وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ) ومع قوله : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) وأنه من لا ولد له وإن سفل ، ولا والد له وإن علا ، وكذلك قوله : ( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ) مع قوله : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ) أفاد مجموع الخطابين في الرجعيات دون البوائن ، ومنه قوله تعالى : ( والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس ) مع قوله : ( كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر ) فإن مجموع الخطابين يفيد أن العلم بأن الرب سبحانه أقسم بإدبار هذا وإقبال هذا ، أو إقبال كل منهما على قول من فسر : أدبر النهار [ ص: 105 ] أي جاء في دبره ، وعسعس بأقبل ، فعلى هذا القول يكون القسم بإقبال الليل وإقبال النهار ، وقد يقال : وقع الإقسام في الآيتين بالنوعين .

وأما البيان الذي يحيل المتكلم عليه ، فكلما أحال الله سبحانه على رسوله في بيان ما أمرهم به من الصلاة والزكاة والحج ، وفرائض الإسلام التي إنما علمت مقاديرها وصفاتها وهيئاتها من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يخرج خطاب القرآن عن هذه الوجوه الأربعة ، فصار الخطاب مع بيانه مفيدا لليقين بالمراد منه ، كأن لم يكن بيانه متصلا به .

الخامس والخمسون : أن هذا القول الذي قاله أصحاب هذا القانون لم يعرف عن طائفة من طوائف بني آدم ، ولا طوائف المسلمين ، ولا طوائف اليهود والنصارى ، ولا عن أحد من أهل الملل قبل هؤلاء ، وذلك لظهور العلم بفساده ، فإنه يقدح فيما هو أظهر العلوم الضرورية لجميع الخلق ، فإن بني آدم يتكلمون ويخاطب بعضهم بعضا مخاطبة ومكاتبة ، وقد أنطق الله تعالى بعض الجمادات وبعض الحيوانات بمثل ما أنطق بني آدم ، فلم يسترب سامع النطق في حصول العلم واليقين به ، بل كان ذلك عنده من أعظم العلوم الضرورية ، فقالت النملة لأمة النمل : ( ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ) فلم يشك النمل ولا سليمان في مرادها وفهموه يقينا ، ولما علم سليمان مرادها يقينا تبسم ضاحكا من قولها ، وخطابه الهدهد فحصل للهدهد العلم واليقين بمراد سليمان من كلامه .

وأرسل سليمان الهدية والكتاب ، وفعل ما حكى الله لما حصل له اليقين بمراد الهدهد من كلامه ، وأنطق سبحانه الجبال مع داود بالتسبيح وعلم سليمان منطق الطير ، وأسمع الصحابة تسبيح الطعام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسمع رسوله تسليم الحجر عليه ، أفيقول مؤمن أو عاقل : إن اليقين لم يحصل للسامع بشيء من مدلول هذا الكلام .

[ ص: 106 ] السادس والخمسون : أن أرباب هذا القانون الذين منعوا استفادة اليقين من كلام الله ورسوله مضطربين في العقل الذي يعارض النقل أشد الاضطراب ، فالفلاسفة مع شدة اعتنائهم بالمعقولات أشد الناس اضطرابا في هذا الباب من طوائف أهل الملل ، ومن أراد معرفة ذلك فليقف على مقالاتهم في كتب أهل المقالات ، كالمقالات الكبرى للأشعري والآراء والديانات للنوبختي ، وغير ذلك ، وأما المتكلمون فاضطرابهم في هذا الباب من أشد اضطراب .

فتأمل اضطراب فرق الشيعة والخوارج والمعتزلة وطوائف أهل الكلام ، وكل منهم يدعي أن صريح العقل معه ، وأن مخالفه قد خرج عن صريح العقل ، ونحن نصدق جميعهم ، ونبطل عقل كل فرقهم بعقل الأخرى ثم نقول للجميع : بعقل من منكم يوزن كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فما وافقه قبل وأقر عليه ، وما خالفه أول أو فوض إلى عقولكم : أعقل أرسطو وشيعته ، أم عقل أفلاطون أم فيثاغورس ، أم بقراط ، أم الفارابي ، أم ابن سينا ، أم محمد بن زكريا ، أم ثابت بن قرة ، أم جهم بن صفوان ، أم النظام ، أو العلاف ، أم الجبائي ، أم بشر المريسي ، أم الإسكافي ؟ .

أم توصون بعقول المتأخرين الذين هذبوا العقليات ، ومخضوا زبدتها واختاروا لأنفسهم ، ولم توصوا بعقول سائر من تقدم ؟ فهذا أفضلهم عندكم محمد بن عمر الرازي ، فبأي معقولاته تزنون نصوص الوحي وأنتم ترون اضطرابه فيها في كتبه أشد اضطراب ولا يثبت على قول ؟

أم ترضون عقول القرامطة والباطنية والإسماعيلية ، أم عقول الاتحادية ؟ فكل هؤلاء وأضعاف أضعافهم يدعي أن العقل الصريح معه ، وأن مخالفيه خرجوا عن صحيح [ ص: 107 ] المعقول ، وهذه عقولهم تنادي عليهم ، ولولا الإطالة لعرضناها على السامع عقلا ، وقد عرضها المعتنون بذكر المقالات ، وهذه العقول إنما تفيد الريب والشك والحيرة والجهل المركب .

فإذا تعارض النقل وهذه العقول أخذ بالنقل الصحيح ، ورمي بهذه العقول تحت الأقدام ، وحطت حيث حطها الله وأصحابها .

السابع والخمسون : أن أدلة القرآن والسنة نوعان :

أحدهما : يدل بمجرد الخبر .

والثاني : يدل بطريق التنبيه على الدليل العقلي .

والقرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله الدالة على ربوبيته ووحدانيته ، وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته ، فآياته العيانية المشهودة في خلقه تدل على صدق النوع الأول وهو مجرد الخبر ، ولم تتجرد أخباره سبحانه عن آية تدل على صدقها ، بل قد بين لعباده في كتابه من البراهين الدالة على صدقه وصدق رسوله ما فيه هدى وشفاء .

فقول القائل : إن تلك الأدلة لا يفيد اليقين ، إن أراد به النوع المتضمن لذكر الأدلة العقلية فهذا من أعظم البهت والوقاحة ، فإن آيات الله التي جعلها أدلة وحججا على وجوده ووحدانيته وصفات كماله إن لم تفد يقينا بمدلول أبدا ، وإن أراد به النوع الأول بمجرد الخبر فقد أقام الله سبحانه الأدلة القطعية على ثبوته فلم يحل عباده فيه على خبر مجرد لا يستفيدون ثبوته إلا من الخبر المجرد نفسه دون الدليل الدال على صدق الخبر ، وهذا غير الدليل العام الدال على صدقه فيما أخبر به ، بل هو الأدلة على التوحيد وإثبات الصفات والنبوات والمعاد وأصول الإيمان ، فلا تجد كتابا قد تضمن من البراهين والأدلة العقلية على هذه المطالب ما تضمنه القرآن ، فأدلته القطعية عقلية وإن لم تفد اليقين ( فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) .

ففي هذا كسر الطاغوت الأول ، وهو قولهم : إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين .

التالي السابق


الخدمات العلمية