الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر يوم أرماث

لما عبر الفرس العتيق ، جلس رستم على سريره وضرب عليه طيارة ، وعبى في القلب ثمانية عشر فيلا ، عليها صناديق ورجال ، وفي المجنبتين ثمانية وسبعة ، وأقام الجالينوس بينه وبين رستم رجالا على كل دعوة رجلا ، أولهم على باب إيوانه وآخرهم مع رستم ، فكلما فعل رستم شيئا قال الذي معه للذي يليه : كان كذا وكذا ، ثم يقول الثاني للذي يليه ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى يزدجرد في أسرع وقت .

وأخذ المسلمون مصافهم . وكان بسعد دماميل وعرق النسا فلا يستطيع الجلوس ، إنما هو مكب على وجهه ، في صدره وسادة على سطح القصر يشرف على الناس ، والصف في أصل حائطه ، لو أعراه الصف فواق ناقة لأخذ برمته ، فما كرثه هول تلك الأيام شجاعة ، وذكر ذلك الناس ، وعابه بعضهم بذلك فقال :


نقاتل حتى أنزل الله نصره وسعد بباب القادسية معصم     فأبنا وقد آمت نساء كثيرة
ونسوة سعد ليس فيهن أيم



[ ص: 303 ] فبلغت أبياته سعدا فقال : اللهم إن كان هذا كاذبا وقال الذي قاله رياء وسمعة فاقطع عني لسانه ! فإنه لواقف في الصف يومئذ أتاه سهم غرب فأصاب لسانه ، فما تكلم بكلمة حتى لحق بالله تعالى . فقال جرير بن عبد الله نحو ذلك أيضا ، وكذلك غيره ، ونزل سعد إلى الناس فاعتذر إليهم وأراهم ما به من القروح في فخذيه وأليتيه ، فعذره الناس وعلموا حاله ، ولما عجز عن الركوب استخلف خالد بن عرفطة على الناس ، فاختلف عليه ، فأخذ نفرا ممن شغب عليه فحبسهم في القصر ، منهم : أبو محجن الثقفي ، وقيدهم .

وقيل : بل كان حبس أبي محجن بسبب الخمر ، وأعلم الناس أنه قد استخلف خالدا وإنما يأمرهم خالد ، فسمعوا وأطاعوا ، وخطب الناس يومئذ ، وهو يوم الاثنين من المحرم سنة أربع عشرة ، وحثهم على الجهاد وذكرهم ما وعدهم الله من فتح البلاد ، وما نال من كان قبلهم من المسلمين من الفرس ، وكذلك فعل أمير كل قوم ، وأرسل سعد نفرا من ذوي الرأي والنجدة ، منهم : المغيرة ، وحذيفة ، وعاصم ، وطليحة ، وقيس الأسدي ، وغالب ، وعمرو بن معدي كرب وأمثالهم ، ومن الشعراء : الشماخ ، والحطيئة ، وأوس بن مغراء ، وعبيدة بن الطبيب وغيرهم ، وأمرهم بتحريض الناس على القتال ، ففعلوا .

وكان صف المشركين على شفير العتيق ، وكان صف المسلمين مع حائط قديس والخندق ، فكان المسلمون والمشركون بين الخندق والعتيق ، ومع الفرس ثلاثون ألف مسلسل ، وأمر سعد الناس بقراءة سورة الجهاد - وهي الأنفال - فلما قرئت هشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها .

فلما فرغ القراء منها قال سعد : الزموا مواقفكم حتى تصلوا الظهر ، فإذا صليتم فإني مكبر تكبيرة ، فكبروا واستعدوا ، فإذا سمعتم الثانية فكبروا والبسوا عدتكم ، ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا ، ولينشط فرسانكم الناس ، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعا حتى تخالطوا عدوكم ، وقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله . فلما كبر سعد الثالثة برز أهل النجدات فأنشبوا القتال ، وخرج إليهم من الفرس أمثالهم ، فاعتوروا الطعن والضرب ، وقال غالب بن عبد الله الأسدي :

[ ص: 304 ]

قد علمت واردة المشائح     ذات اللبان والبيان الواضح
أني سمام بطل المسالح     وفارج الأمر المهم الفادح



فخرج إليهم هرمز ، وكان من ملوك الباب ، وكان متوجا ، فأسره غالب ، فجاء به سعدا ورجع ، وخرج عاصم وهو يقول :


قد علمت بيضاء صفراء اللبب     مثل اللجين إذ تغشاه الذهب
أني امرؤ لا من يعيبه السبب     مثلي على مثلك يغريه العتب



فطارد فارسيا فانهزم ، فاتبعه عاصم حتى خالط صفهم ، فحموه ، فأخذ عاصم رجلا على بغل وعاد به ، وإذا هو خباز الملك معه من طعام الملك وخبيص ، فأتى به سعدا فنفله أهل موقفه . وخرج فارسي فطلب البراز ، فبرز إليه عمرو بن معدي كرب ، فأخذه وجلد به الأرض ، فذبحه وأخذ سواريه ومنطقته . وحملت الفيلة عليهم ففرقت بين الكتائب ، فنفرت الخيل ، وكانت الفرس قد قصدت بجيلة بسبعة عشر فيلا ، فنفرت خيل بجيلة ، فكادت بجيلة تهلك لنفار خيلها عنها وعمن معها ، وأرسل سعد إلى بني أسد أن دافعوا عن بجيلة وعمن معها من الناس . فخرج طليحة بن خويلد ، وحمال بن مالك في كتائبهما ، فباشروا الفيلة حتى عدلها ركبانها .

وخرج إلى طليحة عظيم منهم ، فقتله طليحة ، وقام الأشعث بن قيس في كندة فقال : يا معشر كندة لله در بني أسد ! أي فري يفرون ، وأي هذ يهذون عن موقفهم ، [ ص: 305 ] أغنى كل قوم ما يليهم ، وأنتم تنتظرون من يكفيكم ، أشهد ما أحسنتم أسوة قومكم من العرب . فنهد ونهدوا ، فأزالوا الذين بإزائهم . فلما رأى الفرس ما يلقى الناس والفيلة من أسد رموهم بحدهم وحملوا عليهم وفيهم ذو الحاجب ، والجالينوس . والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد ، فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم تلك الفيلة ، فثبتوا لهم ، وكبر سعد الرابعة ، وزحف إليهم المسلمون ورحا الحرب تدور على أسد ، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة فكانت الخيول تحيد عنها .

فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو التميمي فقال : يا معشر بني تميم ، أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة ؟ قالوا : بلى والله ! ثم نادى في رجال من قومه رماة ، وآخرين لهم ثقافة ، فقال : يا معشر الرماة ، ذبوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل . وقال : يا معشر أهل الثقافة ، استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها ، وخرج يحميهم ، ورحا الحرب تدور على أسد ، وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد ، وأقبل أصحاب عاصم على الفيلة فأخذوا بأذناب توابيتها ، فقطعوا وضنها ، وارتفع عواؤهم ، فما بقي لهم فيل إلا أوى ، وقتل أصحابها ، ونفس عن أسد ، وردوا فارس عنهم إلى مواقفهم ، واقتتلوا حتى غربت الشمس ، ثم حتى ذهبت هدأة من الليل ، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء ، وأصيب من أسد تلك العشية خمسمائة ، وكانوا ردءا للناس ، وكان عاصم حامية للناس ، وهذا اليوم الأول ، وهو يوم أرماث ، فقال عمرو بن شأس الأسدي :


جلبنا الخيل من أكناف نيق     إلى كسرى فوافقها رعالا
تركن لهم على الأقسام شجوا     وبالحقوين أياما طوالا
قتلنا رستما وبنيه قسرا     تشير الخيل فوقهم الهيالا



الأبيات . [ ص: 306 ] وكان سعد قد تزوج سلمى امرأة المثنى بن حارثة الشيباني بعده بشراف ، فلما جال الناس يوم أرماث ، وكان سعد لا يطيق الجلوس ، جعل سعد يتململ جزعا فوق القصر ، فلما رأت سلمى ما يصنع الفرس قالت : وامثنياه ! ولا مثنى للخيل اليوم ! قالت ذلك عند رجل ضجر مما يرى في أصحابه ونفسه ، فلطم وجهها وقال : أين المثنى عن هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحا ! يعني أسدا وعاصما . فقالت : أغيرة وجبنا ؟ فقال : والله لا يعذرني اليوم أحد إن لم تعذريني وأنت ترين ما بي ! فتعلقها الناس لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه ، وكان غير جبان ولا ملوم .

التالي السابق


الخدمات العلمية