الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( كتاب الشهادات ) .

                                                                                        أخرها عن القضاء ; لأنها كالوسيلة له وهو المقصود وهي سببه الكلام فيها في مواضع : الأول في معناها لغة وشريعة واصطلاحا فالأول كما في الصحاح خبر قاطع تقول منه شهد الرجل على كذا وربما قالوا شهد الرجل بسكون الهاء للتخفيف وقولهم أشهد بكذا أي أحلف والمشاهدة المعاينة وشهده شهودا أي حضره فهو شاهد وقوم شهود أي حضور وهو في الأصل مصدر وشهد أيضا مثل راكع وركع وشهد له بكذا شهادة أي أدى ما عنده فهو شاهد والجمع شهد كصاحب وصحب وسافر وسفر وبعضهم ينكره وجمع الشهد شهود وأشهاد والشهيد الشاهد والجمع الشهداء ا هـ .

                                                                                        وفي المصباح فائدة جرى على ألسنة الأمة سلفها وخلفها في أداء الشهادة أشهد مقتصرين عليه دون غيره من الألفاظ الدالة على تحقيق الشيء نحو أعلم وأتيقن وهو موافق لألفاظ الكتاب والسنة أيضا فكان كالإجماع على تعيين هذه اللفظة دون غيرها ولا يخلو عن معنى التعبد إذ لم ينقل غيره ولعل السر فيه أن الشهادة اسم من المشاهدة وهي الاطلاع على الشيء عيانا فاشترط في الأداء ما ينبئ عن المشاهدة واختصت بشيء يدل على ذلك وهو ما اشتق من اللفظ وهو أشهد بلفظ المضارع ولا يجوز شهدت ; لأن الماضي موضوع للإخبار عما وقع نحو قمت أي فيما مضى من الزمان فلو قال شهدت احتمل الإخبار عن الماضي فيكون غير مخبر به في الحال وعليه قوله تعالى حكاية عن أولاد يعقوب عليهم الصلاة والسلام { وما شهدنا إلا بما علمنا } ; لأنهم شهدوا عند أبيهم أولا بسرقته حين قالوا إن ابنك سرق فلما اتهمهم اعتذروا عن أنفسهم بأنهم لا صنع لهم في ذلك فقالوا وما شهدنا عندك سابقا بقولنا إن ابنك سرق إلا بما عايناه من إخراج الصواع من رحله والمضارع موضوع للإخبار في الحال فإذا قال أشهد فقد أخبر في الحال وعليه قوله تعالى { قالوا نشهد إنك لرسول الله } أي نحن الآن شاهدون بذلك وأيضا فقد استعمل أشهد في القسم نحو أشهد بالله لقد كان كذا أي أقسم فتضمن لفظ أشهد معنى المشاهدة والقسم والإخبار في الحال فكأن الشاهد قال أقسم بالله لقد اطلعت على ذلك وأنا الآن أخبر به وهذه المعاني مفقودة في غيره من الألفاظ فلذا اقتصر احتياطا واتباعا للمأثور وقولهم أشهد أن لا إله إلا الله تعدى بنفسه ; لأنه بمعنى أعلم . ا هـ .

                                                                                        وأما الثاني فما ذكره المؤلف بقوله ( قوله هي إخبار عن مشاهدة وعيان لا عن تخمين وحسبان ) أي الشهادة وصرح الشارح بأن هذا معناها اللغوي وهو خلاف الظاهر وإنما هو معناها الشرعي أيضا كما أفاده في إيضاح الإصلاح [ ص: 56 ] والمشاهدة المعاينة كما قدمناه والعيان بالكسر المعاينة كما في ضياء الحلوم فهو تأكيد والتخمين الحدس والحسبان بالكسر الظن وأورد على هذا التعريف الشهادة بالتسامع فإنها لم تكن عن مشاهدة وأجاب في الإيضاح بأن جوازها إنما هو للاستحسان والتعريفات الشرعية إنما تكون على وفق القياس ولكونها إخبارا عن معاينة قال في الخانية إذا قرئ عليه صك ولم يفهم ما فيه لا يجوز له أن يشهد بما فيه كذا في الحظر والإباحة وفي الملتقط إذا سمع صوت المرأة ولم ير شخصها فشهد اثنان عنده أنها فلانة لا يحل له أن يشهد عليها وإن رأى شخصها وأقرت عنده فشهد اثنان أنها فلانة حل له أن يشهد عليها ا هـ .

                                                                                        وتمام مسألة الشهادة بما في الصك في شهادات البزازية ، وأما معناها في الاصطلاح فقال في العناية إخبار صادق في مجلس الحكم بلفظ الشهادة فالإخبار كالجنس وقوله صادق يخرج الأخبار الكاذبة وما بعده يخرج الأخبار الصادقة غير الشهادات ا هـ .

                                                                                        ويرد عليه قول القائل في مجلس القاضي أشهد برؤية كذا لبعض العرفيات فالأولى أن يزاد لإثبات حق كما في فتح القدير ولم يقولوا بعد دعوى لتخلفها عنها في نحو عتق الأمة وطلاق الزوجة فلم تكن الدعوى شرطا لصحتها مطلقا وقول بعضهم إنها إخبار بحق للغير على الغير بخلاف الإقرار فإنه إخبار بحق على نفسه للغير والدعوى فإنها إخبار بحق لنفسه على الغير غير صحيح لعدم شموله لما إذا أخبر بما يوجب الفرقة من قبلها قبل الدخول فإنه شهادة ولم يوجد فيها ذلك المعنى كما أشار إليه في إيضاح الإصلاح وكأنه لاحظ أنه لم يخبر بحق للغير لأن ذلك موجب لسقوط المهر وجوابه أن سقوطه عن الزوج عائد إلى أنه له فهو كالشهادة بالإبراء عن الدين فإنه إخبار بحق للمديون وهو السقوط عنه وكذا هنا وجعل الأخبار أربعة والرابع الإنكار وعزاه إلى شرح الطحاوي ، وأما الثاني فركنها لفظ أشهد بمعنى الخبر دون القسم كذا في الشرح ما لم يأت في آخرها بما يوجب الشك فلو قال أشهد بكذا فيما أعلم لا تقبل كما لو قال في ظني بخلاف ما لو قال أشهد بكذا قد علمت ولو قال لا حق لي قبل فلان فيما أعلم لا يصح الإبراء ولو قال لفلان علي ألف درهم فيما أعلم لا يصح الإقرار كما ذكره الإمام الحصيري ولو قال المعدل هو عدل فيما أعلم لا يكون تعديلا ذكره في باب أدب القضاء للخصاف .

                                                                                        والحاصل أن قوله فيما أعلم بعد الإخبار موجب للشك فيه عرفا فيبطل وأما الثالث فشرطها العقل الكامل والضبط والولاية والقدرة على التمييز بين المدعي والمدعى عليه وذلك بالسمع والبصر هكذا في الشرح وفتح القدير والعناية ولكن زاد فيها الإسلام إن كان المدعى عليه مسلما وفي كلامهم قصور ; لأن من الشرائط أن لا يكون بينه وبين المشهود له قرابة الولاد ولا زوجية وأن لا يدفع عن نفسه مغرما وأن لا يجلب لنفسه مغنما وأن لا يكون بينه وبين المشهود عليه عداوة دنيوية كما سيأتي مفصلا والظاهر أنهم إنما تركوا هذه ; لأن مرادهم بيان شرائط الشهادة في الجملة لا بالنظر إلى المشهود له والمشهود عليه ولذا ترى بعضهم ترك قيد الإسلام لجواز شهادة الكافر على مثله والأحسن ما في البدائع من أن شرائطها نوعان ما هو شرط تحملها وما هو شرط أدائها فالأول ثلاثة العقل وقت التحمل والبصر فلا يصح تحملها من مجنون وصبي لا يعقل وأعمى وأن يكون التحمل بمعاينة المشهود به بنفسه لا بغيره إلا في أشياء مخصوصة يصح التحمل فيها بالتسامع ولا يشترط للتحمل البلوغ والحرية والإسلام والعدالة حتى لو كان وقت التحمل صبيا عاقلا أو عبدا أو كافرا أو فاسقا ثم بلغ الصبي وعتق العبد وأسلم الكافر وتاب الفاسق فشهدوا عند القاضي تقبل وأما شرائط أدائها فأربعة أنواع منها ما يرجع إلى الشاهد ومنها ما يرجع إلى نفس الشهادة ومنها ما يرجع إلى مكانها ومنها ما يرجع إلى المشهود به . فما يرجع إلى الشاهد البلوغ والحرية والبصر والنطق والعدالة لكن هي شرط وجوب القبول على القاضي لا جوازه وأن لا يكون محدودا في قذف وأن لا يجر الشاهد إلى نفسه مغنما ولا يدفع [ ص: 57 ] عن نفسه مغرما فلا تقبل شهادة الفرع لأصله والأصل لفرعه وأحد الزوجين للآخر وأن لا يكون خصما فلا تقبل شهادة الوصي لليتيم والوكيل لموكله وأن يكون عالما بالمشهود به وقت الأداء ذاكرا له فلا يجوز اعتماده على خطه من غير تذكر عنده خلافا لهما ، وأما ما يخص بعضها فالإسلام إن كان المشهود عليه مسلما والذكورة في الشهادة بالحد والقصاص وتقدم الدعوى فيما إذا كان من حقوق العباد وموافقتها للدعوى فيما يشترط فيها فإن خالفتها لم تقبل إلا إذا وافق المدعي عند إمكانه وقيام الرائحة في الشهادة على شرب الخمر ولم يكن سكرانا لا لبعد مسافة والأصالة في الشهادة بالحدود والقصاص وتعذر حضور الأصل في الشهادة على الشهادة ، وما يرجع إلى الشهادة لفظ الشهادة والعدد في الشهادة بما يطلع عليه الرجال واتفاق الشاهدين وما يرجع إلى مكانها واحد وهو مجلس القضاء وما يرجع إلى المشهود به قد علم من الشرائط الخاصة فالحاصل أن شرائطها أحد وعشرون : شرائط التحمل ثلاثة وشرائط الأداء سبعة عشر منها عشر شرائط عامة ومنها سبعة شرائط خاصة وشرائط نفس الشهادة ثلاثة وشرط مكانها واحد وسيأتي صفة الشاهد الذي ينصبه القاضي شاهدا للناس ، والرابع سبب وجوبها طلب ذي الحق أو خوف فوت حقه فإن من عنده شهادة لا يعلم بها صاحب الحق وخاف فوت الحق يجب عليه أن يشهد بلا طلب . الخامس حكمها وجوب الحكم على القاضي . السادس في صفتها تحملا وأداء وسيأتي . السابع في بيان أن القياس عدم قبولها لاحتمال الكذب لكن لما شرطت العدالة ترجح جانب الصدق ووردت النصوص بالاستشهاد جعلت موجبة . الثامن محاسنها كثيرة منها امتثال الأمر في قوله تعالى { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط } وهو حسن . التاسع في دليلها وهو الكتاب والسنة والإجماع . العاشر في أهلها وقد علم من الشرائط .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( كتاب الشهادات ) .

                                                                                        [ ص: 56 ] ( قوله فما يرجع إلى الشاهد البلوغ والحرية إلخ ) ترك السمع وقد ذكره فيما مر آنفا عن الشروح وبه تصير ثمانية عشر [ ص: 57 ] ( قوله فالحاصل أن شرائطها أحد وعشرون إلخ ) هذا الحاصل غير موافق لما مر بل الموافق له أن يقال فالحاصل أن شرائطها أربعة وعشرون شرائط التحمل ثلاثة وشرائط الأداء أحد وعشرون منها شرائط الشاهد سبعة عشر عشرة عامة وسبعة خاصة ومنها شرائط نفس الشهادة ثلاثة وشرط مكانها واحد .




                                                                                        الخدمات العلمية