الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان فبأي آلاء ربكما تكذبان .

انتقال من وصف جزاء المجرمين إلى ثواب المتقين . والجملة عطف على جملة يعرف المجرمون بسيماهم إلى آخرها ، وهو أظهر لأن قوله في آخرها يطوفون بينها وبين حميم آن يفيد معنى أنهم فيها .

واللام في لمن خاف لام الملك ، أي يعطى من خاف ربه ويملك جنتين ، ولا شبهة في أن من خاف مقام ربه جنس الخائفين لا خائف معين فهو من صيغ العموم البدلي بمنزلة قولك : وللخائف مقام ربه . وعليه فيجيء النظر في تأويل تثنية جنتان فيجوز أن يكون المراد : جنسين من الجنات .

وقد ذكرت الجنات في القرآن بصيغة الجمع غير مرة وسيجيء بعد هذا قوله ومن دونهما جنتان فالمراد جنسان من الجنات .

ويجوز أن تكون التثنية مستعملة كناية عن التعدد ، وهو استعمال موجود في الكلام الفصيح وفي القرآن قال الله تعالى ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ ص: 265 ] ومنه قولهم : لبيك وسعديك ودواليك ، كقول القوال الطائي من شعر الحماسة :

فقولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا هلم فإن المشرفي الفرائض

أي فقولوا : يا قوم ، وتقدم عند قوله تعالى سنعذبهم مرتين في سورة التوبة . وإيثار صيغة التثنية هنا لمراعاة الفواصل السابقة واللاحقة فقد بنيت قرائن السورة عليها والقرينة ظاهرة وإليه يميل كلام الفراء ، وعلى هذا فجميع ما أجري بصيغة التثنية في شأن الجنتين فمراد به الجمع .

وقيل : أريد جنتان لكل متق تحفان بقصره في الجنة كما قال تعالى في صفة جنات الدنيا جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب الآية ، وقال لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال فهما جنتان باعتبار يمنة القصر ويسرته والقصر فاصل بينهما .

والمقام : أصله محل القيام ومصدر ميمي للقيام وعلى الوجهين يستعمل مجازا في الحالة والتلبس كقولك لمن تستجيره : هذا مقام العائذ بك ، ويطلق على الشأن والعظمة ، فإضافة مقام إلى ربه هنا إن كانت على اعتبار المقام للخائف فهو بمعنى الحال ، وإضافته إلى ربه تشبه إضافة المصدر إلى المفعول ، أي مقامه من ربه ، أي بين يديه .

وإن كانت على اعتبار المقام لله تعالى فهو بمعنى الشأن والعظمة . وإضافته كالإضافة إلى الفاعل ، ويحتمل الوجهين قوله تعالى ذلك لمن خاف مقامي في سورة إبراهيم وقوله وأما من خاف مقام ربه في سورة النازعات .

وجملة فبأي آلاء ربكما تكذبان معترضة بين الموصوف والصفة وهي تكرير لنظائرها .

وذواتا : تثنية ذات ، والواو أصلية لأن أصل ذات : ذوة ، والألف التي بعد [ ص: 266 ] الواو إشباع للفتحة لازم للكلمة . وقيل : الألف أصلية وأن أصل ذات : ذوات فخففت في الإفراد وردتها التثنية إلى أصلها وقد تقدم في قوله تعالى وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط في سورة سبأ . وأما الألف التي بعد التاء المثناة الفوقية فهي علامة رفع نائبة عن الضمة .

والأفنان : جمع فنن بفتحتين ، وهو الغصن . والمقصود هنا : أفنان عظيمة كثيرة الإيراق والإثمار بقرينة أن الأفنان لا تخلو عنها الجنات فلا يحتاج إلى ذكر الأفنان لولا قصد ما في التنكير من التعظيم .

وتثنية عينان جار على نحو ما تقدم في تثنية جنتان ، وكذلك تثنية ضميري فيهما ، وضمير تجريان تبع لتثنية معادهما في اللفظ .

فإن كان الجنتان اثنتين لكل من خاف مقام ربه فلكل جنة منهما عين فهما عينان لكل من خاف مقام ربه ، وإن كانت الجنتان جنسين فالتثنية مستعملة في إرادة الجمع ، أي عيون على عدد الجنات ، وكذلك إذا كان المراد من تثنية جنتان الكثرة كما تثنية عينان للكثرة .

وفصل بين الأفنان وبين ذكر الفاكهة بذكر العينين مع أن الفاكهة بالأفنان أنسب ، لأنه لما جرى ذكر الأفنان ، وهي من جمال منظر الجنة أعقب بما هو من محاسن الجنات وهو عيون الماء جمعا للنظيرين ، ثم أعقب ذلك بما هو من جمال المنظر ، أعني : الفواكه في أفنانها ومن ملذات الذوق .

وأما تثنية زوجان فإن الزوج هنا النوع ، وأنواع فواكه الجنة كثيرة وليس لكل فاكهة نوعان : فإما أن نجعل التثنية بمعنى الجمع ونجعل إيثار صيغة التثنية لمراعاة الفاصلة ولأجل المزاوجة مع نظائرها من قوله ولمن خاف مقام ربه جنتان إلى هنا .

وإما أن نجعل تثنية زوجان لكون الفواكه بعضها يؤكل رطبا وبعضها يؤكل يابسا مثل الرطب والتمر والعنب والزبيب ، وأخص الجوز واللوز وجافهما .

[ ص: 267 ] و ( من كل فاكهة ) بيان ل زوجان مقدم على المبين لرعي الفاصلة .

وتخلل هذه الآيات الثلاث بآيات فبأي آلاء ربكما تكذبان جار على وجه الاعتراض وعلى أنه مجرد تكرير كما تقدم أولاها .

التالي السابق


الخدمات العلمية