الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وقعة قس الناطف ، ويقال لها : الجسر ، ويقال : المروحة ، وقتل أبي عبيد بن مسعود

ولما رجع الجالينوس إلى رستم منهزما ومن معه من جنده قال رستم : أي العجم [ ص: 277 ] أشد على العرب ؟ قال : بهمن جاذويه المعروف بذي الحاجب - وإنما قيل له ذو الحاجب لأنه كان يعصب حاجبيه بعصابة ليرفعهما كبرا . فوجهه ومعه فيلة ، ورد الجالينوس معه وقال لبهمن : إن انهزم الجالينوس ثانية فاضرب عنقه . فأقبل بهمن جاذويه ومعه درفش كابيان راية كسرى ، وكانت من جلود النمر ، عرض ثمانية أذرع ، وطول اثني عشر ذراعا ، فنزل بقس الناطف . وأقبل أبو عبيد فنزل بالمروحة ، فرأت دومة - امرأته أم المختار ابنه - أن رجلا نزل من السماء بإناء فيه شراب ، فشرب أبو عبيد ومعه نفر ، فأخبرت بها أبا عبيد فقال : لهذه إن شاء الله شهادة ! وعهد إلى الناس فقال : إن قتلت فعلى الناس فلان ، فإن قتل فعليهم فلان ، حتى أمر الذين شربوا من الإناء ، ثم قال : فإن قتل فعلى الناس المثنى .

وبعث إليه بهمن جاذويه : إما أن تعبر إلينا وندعكم والعبور ، وإما أن تدعونا نعبر إليكم . فنهاه الناس عن العبور ، ونهاه سليط أيضا ، فلج وترك الرأي وقال : لا يكونوا أجرأ على الموت منا . فعبر إليهم على جسر عقده ابن صلوبا للفريقين ، وضاقت الأرض بأهلها واقتتلوا ، فلما نظرت الخيول إلى الفيلة ، والخيل عليها التجافيف ، رأت شيئا منكرا لم تكن رأت مثله ، فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم عليهم خيولهم ، وإذا حملت الفرس على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت خيولهم وكراديسهم ورموهم بالنشاب . واشتد الأمر بالمسلمين ، فترجل أبو عبيد والناس ، ثم مشوا إليهم ثم صافحوهم بالسيوف ، فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم ، فنادى أبو عبيد : احتوشوا الفيلة واقطعوا بطانها واقلبوا عنها أهلها ، ووثب هو على الفيل الأبيض فقطع بطانه ووقع الذين عليه ، وفعل القوم مثل ذلك ، فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه . وأهوى الفيل لأبي عبيد ، فضربه أبو عبيد بالسيف ، وخبطه الفيل بيده فوقع ، فوطئه الفيل وقام عليه . فلما بصر به الناس تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم ، ثم أخذ اللواء الذي كان أمره بعده ، فقاتل حتى تنحى عن أبي عبيد ، فأخذه المسلمون فأحرزوه ، ثم قتل الفيل الأمير الذي بعد أبي عبيد ، وتتابع سبعة أنفس من ثقيف ، كلهم يأخذ اللواء ويقاتل حتى يموت ، ثم أخذ اللواء المثنى ، فهرب عنه الناس .

[ ص: 278 ] فلما رأى عبد الله بن مرثد الثقفي ما لقي أبو عبيد وخلفاؤه ، وما يصنع الناس بادرهم إلى الجسر فقطعه وقال : يا أيها الناس ، موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا ! وحاز المشركون المسلمين إلى الجسر ، فتواثب بعضهم إلى الفرات فغرق من لم يصبر ، وأسرعوا فيمن صبر . وحمى المثنى وفرسان من المسلمين الناس وقال : إنا دونكم فاعبروا على هينتكم ، ولا تدهشوا ، ولا تغرقوا نفوسكم . وقاتلعروة بن زيد الخيل قتالا شديدا وأبو محجن الثقفي ، وقاتل أبو زبيد الطائي حمية للعربية ، وكان نصرانيا قدم الحيرة لبعض أمره ، ونادى المثنى : من عبر نجا . فجاء العلوج فعقدوا الجسر وعبر الناس .

وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس ، وعبر المثنى وحمى جانبه ، فلما عبر ارفض عنه أهل المدينة وبقي المثنى في قلة ، وكان قد جرح وأثبت فيه حلق من درعه .

وأخبر عمر عمن سار في البلاد من الهزيمة استحياء ، فاشتد عليه وقال : اللهم إن كل مسلم في حل مني ، أنا فئة كل مسلم ، يرحم الله أبا عبيد ! لو كان انحاز إلي لكنت له فئة .

وهلك من المسلمين أربعة آلاف بين قتيل وغريق ، وهرب ألفان ، وبقي ثلاثة آلاف ، وقتل من الفرس ستة آلاف .

وأراد بهمن جاذويه العبور خلف المسلمين ، فأتاه الخبر باختلاف الفرس ، وأنهم قد ثاروا برستم ، ونقضوا الذي بينهم وبينه ، وصاروا فريقين : الفهلوج على رستم ، وأهل فارس على الفيرزان ، فرجع إلى المدائن .

وكانت هذه الوقعة في شعبان .

[ ص: 279 ] وكان فيمن قتل بالجسر عقبة وعبد الله ابنا قيظى بن قيس ، وكانا شهدا أحدا ، وقتل معهما أخوهما عباد ، ولم يشهد معهما أحدا ، وقتل أيضا قيس بن السكن بن قيس أبو زيد الأنصاري ، وهو بدري لا عقب له ، وقتل يزيد بن قيس بن الحطيم الأنصاري ، شهد أحدا ، وفيها قتل أبو أمية الفزاري ، له صحبة ، والحكم بن مسعود أخو أبي عبيد ، وابنه جبر بن الحكم بن مسعود .

التالي السابق


الخدمات العلمية