الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر بعض أخباره ومناقبه

كان أبو بكر أول الناس إسلاما في قول بعضهم ، وقد تقدم الخلاف في ذلك ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة غير أبي بكر . والذي ورد له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من المناقب كثير ، كشهادته له الجنة ، وعتقه من النار ، وغير ذلك من الإخبار بخلافته تعريضا ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - للمرأة : إن لم تجديني فأتي أبا بكر ، وكقوله : اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ، إلى غير ذلك .

وشهد بدرا وأحدا والخندق وغير ذلك من المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعتق سبعة نفر كلهم يعذب في الله - تعالى - منهم : بلال ، وعامر بن فهيرة ، وزنيرة ، والنهدية وابنها ، وجارية بني مؤمل ، وأم عبيس وأسلم . وله أربعون ألفا أنفقها في الله مع ما كسب في التجارة .

ولما ولي الخلافة وارتدت العرب خرج شاهرا سيفه إلى ذي القصة ، فجاءه علي وأخذ بزمام راحلته وقال له : أين يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! أقول لك ما قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد : شم سيفك ، لا تفجعنا بنفسك ، فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام . فرجع وأمضى الجيش .

وكان له بيت مال بالسنح ، وكان يسكنه إلى أن انتقل إلى المدينة ، فقيل له : [ ص: 265 ] ألا نجعل عليه من يحرسه ؟ قال : لا . فكان ينفق جميع ما فيه على المسلمين فلا يبقى فيه شيء ، فلما انتقل إلى المدينة جعل بيت المال معه في داره .

وفي خلافته افتتح معدن بني سليم ، وكان يسوي في قسمته بين السابقين الأولين والمتأخرين في الإسلام ، وبين الحر والعبد والذكر والأنثى ، فقيل له : لتقدم أهل السبق على قدر منازلهم ، فقال : إنما أسلموا لله ، ووجب أجرهم عليه يوفيهم ذلك في الآخرة ، وإنما هذه الدنيا بلاغ . وكان يشتري الأكسية ويفرقها في الأرامل في الشتاء .

ولما توفي أبو بكر جمع عمر الأمناء وفتح بيت المال ، فلم يجدوا فيه شيئا غير دينار سقط من غرارة ، فترحموا عليه .

قال أبو صالح الغفاري : كان عمر يتعهد امرأة عمياء في المدينة بالليل ، فيقوم بأمرها ، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها ، ففعل ما أرادت . فرصده عمر فإذا هو أبو بكر ، كان يأتيها ويقضي أشغالها سرا وهو خليفة ، فقال له : أنت هو لعمري ! قال أبو بكر بن حفص بن عمر : لما حضرت أبا بكر الوفاة حضرته عائشة وهو يعالج الموت فتمثلت :


لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر



فنظر إليها كالغضبان ثم قال : ليس كذلك ولكن وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ، إني قد كنت نحلتك حائط كذا وفي نفسي منه شيء ، فرديه على الميراث ، فردته ، فقال : إنما هما أخواك وأختاك . قالت : من الثانية ؟ إنما هي أسماء . قال : ذات بطن بنت خارجة ، يعني زوجته ، وكانت حاملا فولدت أم كلثوم بعد موته . وقال لها : أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما ، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم ، ولبسنا من خشن ثيابهم ، وليس عندنا من فيء المسلمين إلا هذا العبد وهذا البعير وهذه القطيفة ، فإذا مت فابعثي بالجميع إلى عمر . فلما مات بعثته إلى عمر ، فلما رآه بكى حتى سالت دموعه إلى الأرض وجعل يقول : رحم الله أبا بكر ! لقد أتعب من بعده . ويكرر ذلك . وأمر برفعه . فقال عبد الرحمن بن عوف : سبحان الله ! تسلب عيال أبي بكر عبدا وناضحا وسحق قطيفة ثمنها خمسة دراهم ، فلو أمرت بردها عليهم . فقال : لا والذي بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - لا يكون هذا في ولايتي ، ولا خرج أبو بكر منه وأتقلده أنا . وأمر أبو بكر أن يرد جميع ما أخذ من بيت المال لنفقته بعد وفاته .

وقيل : إن زوجته اشتهت حلوا فقال : ليس لنا ما نشتري به ، فقالت : أنا أستفضل في عدة أيام ما نشتري به . قال : افعلي ، ففعلت ذلك ، فاجتمع لها في أيام [ ص: 266 ] كثيرة شيء يسير ، فلما عرفته ليشتري به حلوا أخذه ، فرده إلى بيت المال ، وقال : هذا يفضل عن قوتنا ، وأسقط من نفقته بمقدار ما نقصت كل يوم ، وغرمه لبيت المال من ملك كان له .

هذا والله هو التقوى الذي لا مزيد عليه وبحق قدمه الناس - رضي الله عنه وأرضاه .

وكان منزل أبي بكر بالسنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة ، فأقام هنالك ستة أشهر بعدما بويع له ، وكان يغدو على رجليه إلى المدينة ، وربما ركب فرسه ، فيصلي بالناس ، فإذا صلى العشاء رجع إلى السنح ، وكان إذا غاب صلى بالناس عمر . وكان يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع ، وكانت له قطعة غنم تروح عليه ، وربما خرج هو بنفسه فيها ، وربما رعيت له ، وكان يحلب للحي أغنامهم ، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم : الآن لا يحلب لنا منائح دارنا ، فسمعها فقال : بلى لعمري لأحلبنها لكم ، وإني لأرجو أن لا يغير بي ما دخلت فيه . فكان يحلب لهم . ثم تحول إلى المدينة بعد ستة أشهر من خلافته وقال : ما تصلح أمور الناس مع التجارة ، وما يصلح إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم . فترك التجارة ، وأنفق من مال المسلمين ما يصلحه وعياله يوما بيوم ، ويحج ويعتمر ، فكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم .

وقيل : فرضوا له ما يكفيه ، فلما حضرته الوفاة أوصى أن تباع أرض له ويصرف ثمنها عوض ما أخذه من مال المسلمين .

وكان أول وال فرض له رعيته نفقته ، وأول خليفة ولي وأبوه حي ، وأول من سمى مصحف القرآن مصحفا ، وأول من سمي خليفة .

( زنيرة بكسر الزاي ، والنون مشددة . وعبيس بضم العين المهملة ، وبالباء الموحدة المفتوحة ، ثم بالياء المثناة من تحت ، وبالسين المهملة . ومنية بالنون الساكنة ، والياء تحتها نقطتان ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية