الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 551 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ( 23 ) )

يقول تعالى ذكره : ( ولما ورد ) موسى ( ماء مدين وجد عليه أمة ) يعني : جماعة ( من الناس يسقون ) نعمهم ومواشيهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( وجد عليه أمة من الناس يسقون ) يقول : كثرة من الناس يسقون .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( أمة من الناس ) قال : أناسا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وقع إلى أمة من الناس يسقون بمدين أهل نعم وشاء .

حدثنا علي بن موسى وابن بشار ، قالا : ثنا أبو داود ، قال : أخبرنا عمران القطان ، قال : ثنا أبو حمزة عن ابن عباس ، في قوله : ( ولما ورد ماء مدين ) قال علي بن موسى : قال : مثل ماء جوابكم هذا ، يعني المحدثة . وقال ابن بشار : مثل محدثتكم هذه ، يعني جوابكم هذا .

وقوله : ( ووجد من دونهم امرأتين تذودان ) يقول : ووجد من دون أمة الناس الذين هم على الماء ، امرأتين تذودان ، يعني بقوله : ( تذودان ) تحبسان غنمهما ; يقال منه : ذاد فلان غنمه وماشيته : إذا أراد شيء من ذلك يشذ ويذهب ، فرده ومنعه يذودها ذودا .

وقال بعض أهل العربية من الكوفيين : لا يجوز أن يقال : ذدت الرجل بمعنى : حبسته ، إنما يقال ذلك للغنم والإبل .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إني [ ص: 552 ] لبعقر حوضي أذود الناس عنه بعصاي " فقد جعل الذود صلى الله عليه وسلم في الناس ، ومن الذود قول سويد بن كراع :


أبيت على باب القوافي كأنما أذود بها سربا من الوحش نزعا



وقول آخر :


وقد سلبت عصاك بنو تميم     فما تدري بأي عصا تذود



وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( تذودان ) يقول : تحبسان .

حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ( ووجد من دونهم امرأتين تذودان ) يعني بذلك أنهما حابستان .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( امرأتين تذودان ) قال : حابستين .

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( ووجد من دونهم امرأتين تذودان ) يقول : تحبسان غنمهما .

واختلف أهل التأويل في الذي كانت عنه تذود هاتان المرأتان ، فقال بعضهم : كانتا تذودان غنمهما عن الماء ، حتى يصدر عنه مواشي الناس ، ثم يسقيان ماشيتهما لضعفهما . [ ص: 553 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك قوله : ( امرأتين تذودان ) قال : تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا وتخلو لهما البئر .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ( ووجد من دونهم امرأتين ) يعني دون القوم تذودان غنمهما عن الماء ، وهو ماء مدين .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : تذودان الناس عن غنمهما .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان ) قال : أي حابستين شاءهما تذودان الناس عن شائهما .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أصحابه ( تذودان ) قال : تذودان الناس عن غنمهما .

وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال معناه : تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا من سقي مواشيهم .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لدلالة قوله : ( ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء ) على أن ذلك كذلك ، وذلك أنهما إنما شكتا أنهما لا تسقيان حتى يصدر الرعاء ، إذ سألهما موسى عن ذودهما ، ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس ، كان لا شك أنهما كانتا تخبران عن سبب ذودهما عنها الناس ، لا عن سبب تأخر سقيهما إلى أن يصدر الرعاء .

وقوله : ( قال ما خطبكما ) يقول تعالى ذكره : قال موسى للمرأتين ما شأنكما وأمركما تذودان ماشيتكما عن الناس ، هلا تسقونها مع مواشي الناس ، والعرب تقول للرجل : ما خطبك ؟ بمعنى : ما أمرك وحالك ، كما قال الراجز :


يا عجبا ما خطبه وخطبي

[ ص: 554 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا العباس ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : أخبرنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال لهما : ( ما خطبكما ) معتزلتين لا تسقيان مع الناس .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وجد لهما رحمة ، ودخلته فيهما خشية ، لما رأى من ضعفهما ، وغلبة الناس على الماء دونهما ، فقال لهما : ما خطبكما : أي ما شأنكما .

وقوله : ( قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء ) يقول جل ثناؤه : قالت المرأتان لموسى : لا نسقي ماشيتنا حتى يصدر الرعاء مواشيهم ، لأنا لا نطيق أن نسقي ، وإنما نسقي مواشينا ما أفضلت مواشي الرعاء في الحوض ، والرعاء : جمع راع ، والراعي جمعه رعاء ورعاة ورعيان .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما قال موسى للمرأتين : ( ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ) : أي لا نستطيع أن نسقي حتى يسقي الناس ، ثم نتبع فضلاتهم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ( حتى يصدر الرعاء ) قال : تنتظران تسقيان من فضول ما في الحياض حياض الرعاء .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ( قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء ) امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال ( وأبونا شيخ كبير ) لا يقدر أن يمس ذلك من نفسه ، ولا يسقي ماشيته ، فنحن ننتظر الناس حتى إذا فرغوا أسقينا ثم انصرفنا .

واختلفت القراء في قراءة قوله : ( حتى يصدر الرعاء ) فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز سوى أبي جعفر القارئ ، وعامة قراء العراق سوى أبي عمرو : ( يصدر الرعاء ) بضم الياء ، [ ص: 555 ] وقرأ ذلك أبو جعفر وأبو عمرو بفتح الياء من يصدر الرعاء عن الحوض . وأما الآخرون فإنهم ضموا الياء ، بمعنى : أصدر الرعاء مواشيهم ، وهما عندي قراءتان متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .

وقوله : ( وأبونا شيخ كبير ) يقولان : لا يستطيع من الكبر والضعف أن يسقي ماشيته .

وقوله : ( فسقى لهما ) ذكر أنه عليه السلام فتح لهما عن رأس بئر كان عليها حجر لا يطيق رفعه إلا جماعة من الناس ، ثم استسقى فسقى لهما ماشيتهما منه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : فتح لهما عن بئر حجرا على فيها ، فسقى لهما منها .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج بنحوه ، وزاد فيه : قال ابن جريج : حجرا كان لا يطيقه إلا عشرة رهط .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن شريح ، قال : انتهى إلى حجر لا يرفعه إلا عشرة رجال ، فرفعه وحده .

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : رحمهما موسى حين ( قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ) فأتى إلى البئر فاقتلع صخرة على البئر كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها ، حتى يرفعوها ، فسقى لهما موسى دلوا فأروتا غنمهما ، فرجعتا سريعا ، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض .

حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ( فسقى لهما ) فجعل يغرف في الدلو ماء كثيرا حتى كانتا أول الرعاء ريا ، فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، وقال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : تصدق عليهما نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فسقى لهما ، فلم يلبث أن أروى غنمهما .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أخذ دلوهما موسى ، ثم تقدم إلى السقاء بفضل قوته ، فزاحم القوم على الماء حتى أخرهم عنه ، ثم سقى لهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية