الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    ( ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد ( 1 ) يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ( 2 ) ) .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مسعر حدثني معن وعوف - أو : أحدهما - أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ] فقال : اعهد إلي . فقال : إذا سمعت الله يقول : ( يا أيها الذين آمنوا ) فارعها سمعك ، فإنه خير يأمر به ، أو شر ينهى عنه .

                                                                                                                                                                                                    وقال : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم - دحيم - حدثنا الوليد حدثنا الأوزاعي عن الزهري قال : إذا قال الله : ( يا أيها الذين آمنوا ) افعلوا ، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم .

                                                                                                                                                                                                    وحدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا محمد بن عبيد حدثنا الأعمش عن خيثمة قال : كل شيء في القرآن : ( يا أيها الذين آمنوا ) فهو في التوراة : " يا أيها المساكين " .

                                                                                                                                                                                                    فأما ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي ، حدثنا معاوية - يعني : ابن هشام - عن عيسى بن راشد ، عن علي بن بذيمة ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية : ( يا أيها الذين آمنوا ) إلا أن عليا سيدها وشريفها وأميرها ، وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا علي بن أبي طالب ، فإنه لم يعاتب في شيء منه . فهو أثر غريب ولفظه فيه نكارة ، وفي إسناده نظر .

                                                                                                                                                                                                    قال البخاري : عيسى بن راشد هذا مجهول ، وخبره منكر . قلت : وعلي بن بذيمة - وإن كان ثقة - إلا أنه شيعي غال ، وخبره في مثل هذا فيه تهمة فلا يقبل . وقوله : " ولم يبق أحد من الصحابة إلا [ ص: 7 ] عوتب في القرآن إلا عليا " إنما يشير به إلى الآية الآمرة بالصدقة بين يدي النجوى ، فإنه قد ذكر غير واحد أنه لم يعمل بها أحد إلا علي ونزل قوله : ( أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله ) الآية [ سورة المجادلة : 13 ] وفي كون هذا عتابا نظر ; فإنه قد قيل : إن الأمر كان ندبا لا إيجابا ، ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل ، فلم ير من أحد منهم خلافه . وقوله عن علي : " إنه لم يعاتب في شيء من القرآن " فيه نظر أيضا ; فإن الآية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة على أخذ الفداء عمت جميع من أشار بأخذه ، ولم يسلم منها إلا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فعلم بهذا ، وبما تقدم ضعف هذا الأثر ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث حدثني يونس قال : قال محمد بن مسلم : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران ، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم ، فيه : هذا بيان من الله ورسوله : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) فكتب الآيات منها حتى بلغ : ( إن الله سريع الحساب ) .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه قال : هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا ، الذي كتبه لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة ، ويأخذ صدقاتهم . فكتب له كتابا وعهدا ، وأمره فيه بأمره ، فكتب : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله ورسوله : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) عهد من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كله ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " .

                                                                                                                                                                                                    قوله تعالى ( أوفوا بالعقود ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : يعني بالعقود : العهود . وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك قال : والعهود ما كانوا يتعاهدون عليه من الحلف وغيره . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) يعني بالعهود : يعني ما أحل الله وما حرم ، وما فرض وما حد في القرآن كله ، فلا تغدروا ولا تنكثوا ، ثم شدد في ذلك فقال : ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) إلى قوله : ( سوء الدار ) [ الرعد : 25 ] .

                                                                                                                                                                                                    وقال الضحاك : ( أوفوا بالعقود ) قال : ما أحل الله وما حرم وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 8 ] وقال زيد بن أسلم : ( أوفوا بالعقود ) قال : هي ستة : عهد الله ، وعقد الحلف ، وعقد الشركة ، وعقد البيع ، وعقد النكاح ، وعقد اليمين .

                                                                                                                                                                                                    وقال محمد بن كعب : هي خمسة منها : حلف الجاهلية ، وشركة المفاوضة .

                                                                                                                                                                                                    وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الآية : ( أوفوا بالعقود ) قال : فهذا يدل على لزوم العقد وثبوته ، فيقتضي نفي خيار المجلس ، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك . وخالفهما الشافعي وأحمد بن حنبل والجمهور ، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " وفي لفظ للبخاري : " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع ، وليس هذا منافيا للزوم العقد ، بل هو من مقتضياته شرعا ، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقد .

                                                                                                                                                                                                    وقوله تعالى : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) هي : الإبل والبقر ، والغنم . قاله الحسن وقتادة وغير واحد . قال ابن جرير : وكذلك هو عند العرب . وقد استدل ابن عمر وابن عباس ، وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمه إذا ذبحت ، وقد ورد في ذلك حديث في السنن ، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من طريق مجالد عن أبي الوداك جبر بن نوف ، عن أبي سعيد ، قال : قلنا : يا رسول الله ، ننحر الناقة ، ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله؟ فقال : " كلوه إن شئتم ; فإن ذكاته ذكاة أمه " . وقال الترمذي : حديث حسن .

                                                                                                                                                                                                    [ و ] قال أبو داود : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عتاب بن بشير ، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ذكاة الجنين ذكاة أمه " . تفرد به أبو داود .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( إلا ما يتلى عليكم ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني بذلك : الميتة والدم ولحم الخنزير .

                                                                                                                                                                                                    وقال قتادة : يعني بذلك الميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه .

                                                                                                                                                                                                    والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك قوله : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ) فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض ; ولهذا قال : ( إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب ) يعني : منها . فإنه حرام لا يمكن استدراكه ، وتلاحقه ; ولهذا قال تعالى : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) أي : إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 9 ] وقوله : ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) قال بعضهم : هذا منصوب على الحال . والمراد من الأنعام : ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم ، وما يعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر ، فاستثنى من الإنسي ما تقدم ، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام .

                                                                                                                                                                                                    وقيل : المراد [ أحللنا لكم الأنعام إلا ما استثني لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام ، كقوله : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) أي : أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا عاد ، أي : كما ] أحللنا الأنعام لكم في جميع الأحوال ، فحرموا الصيد في حال الإحرام ، فإن الله قد حكم بهذا وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه ; ولهذا قال : ( إن الله يحكم ما يريد )

                                                                                                                                                                                                    ثم قال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) قال ابن عباس : يعني بذلك مناسك الحج .

                                                                                                                                                                                                    وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدي والبدن من شعائر الله .

                                                                                                                                                                                                    وقيل : شعائر الله محارمه [ التي حرمها ] أي : لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى ; ولهذا قال [ تعالى ] ( ولا الشهر الحرام ) يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال ، وتأكيد اجتناب المحارم ، كما قال تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) [ البقرة : 217 ] ، وقال تعالى : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا [ في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ] ) الآية . [ التوبة : 36 ] .

                                                                                                                                                                                                    وفي صحيح البخاري : عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " .

                                                                                                                                                                                                    وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت ، كما هو مذهب طائفة من السلف .

                                                                                                                                                                                                    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : ( ولا الشهر الحرام ) يعني : لا تستحلوا قتالا فيه . وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الكريم بن مالك الجزري ، واختاره ابن جرير أيضا ، وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ ، وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، واحتجوا بقوله : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) [ التوبة : 5 ] قالوا : والمراد أشهر التسيير الأربعة ، [ ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ] قالوا : فلم يستثن شهرا حراما من غيره .

                                                                                                                                                                                                    وقد حكى الإمام أبو جعفر [ رحمه الله ] الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة ، قال : وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو [ ص: 10 ] ذراعيه بلحاء جميع أشجار الحرم ، لم يكن ذلك له أمانا من القتل ، إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان ولهذه المسألة بحث آخر ، له موضع أبسط من هذا .

                                                                                                                                                                                                    [ و ] قوله : ( ولا الهدي ولا القلائد ) يعني : لا تتركوا الإهداء إلى البيت ; فإن فيه تعظيما لشعائر الله ، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام ، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء ، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها ، فإن من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ; ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحليفة ، وهو وادي العقيق ، فلما أصبح طاف على نسائه ، وكن تسعا ، ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين ، ثم أشعر هديه وقلده ، وأهل بالحج والعمرة وكان هديه إبلا كثيرة تنيف على الستين ، من أحسن الأشكال والألوان ، كما قال تعالى : ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) [ الحج : 32 ] .

                                                                                                                                                                                                    قال بعض السلف : إعظامها : استحسانها واستسمانها .

                                                                                                                                                                                                    وقال علي بن أبي طالب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن . رواه أهل السنن

                                                                                                                                                                                                    وقال مقاتل بن حيان : ( ولا القلائد ) فلا تستحلوا وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر ، وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجر الحرم ، فيأمنون به .

                                                                                                                                                                                                    رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال : نسخ من هذه السورة آيتان : آية القلائد ، وقوله : ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) [ المائدة : 42 ] .

                                                                                                                                                                                                    وحدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن ابن عون قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا .

                                                                                                                                                                                                    وقال عطاء : كانوا يتقلدون من شجر الحرم ، فيأمنون ، فنهى الله عن قطع شجره . وكذا قال مطرف بن عبد الله .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ) أي : ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام ، الذي من دخله كان آمنا ، وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه ، فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه .

                                                                                                                                                                                                    قال مجاهد وعطاء وأبو العالية ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن عبيد بن عمير والربيع [ ص: 11 ] بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان في قوله : ( يبتغون فضلا من ربهم ) يعني بذلك : التجارة .

                                                                                                                                                                                                    وهذا كما تقدم في قوله : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) [ البقرة : 198 ]

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( ورضوانا ) قال ابن عباس : يترضون الله بحجهم .

                                                                                                                                                                                                    وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جريج : أن هذه الآية نزلت في الحطم بن هند البكري ، كان قد أغار على سرح المدينة فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت ، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا في طريقه إلى البيت ، فأنزل الله عز وجل ( ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ) .

                                                                                                                                                                                                    وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله ، إذا لم يكن له أمان ، وإن أم البيت الحرام أو بيت المقدس ; فإن هذا الحكم منسوخ في حقهم ، والله أعلم . فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به ، فهذا يمنع كما قال [ تعالى ] ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ التوبة : 28 ] ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع - لما أمر الصديق على الحجيج - عليا وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان .

                                                                                                                                                                                                    وقال [ علي ] بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( ولا آمين البيت الحرام ) يعني من توجه قبل البيت الحرام ، فكان المؤمنون والمشركون يحجون البيت الحرام ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعدها : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ التوبة : 28 ] وقال تعالى : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) [ التوبة : 17 ] وقال [ تعالى ] : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) [ التوبة : 18 ] فنفى المشركين من المسجد الحرام .

                                                                                                                                                                                                    وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن قتادة في قوله : ( ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام ) قال : منسوخ ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من الشجر ، فلم يعرض له أحد ، وإذا رجع تقلد قلادة من شعر فلم يعرض له أحد . وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا ألا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت ، فنسخها قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) [ التوبة : 5 ] . .

                                                                                                                                                                                                    وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : ( ولا القلائد ) يعني : إن تقلد قلادة من الحرم فأمنوه ، قال : ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك ، قال الشاعر :

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 12 ]

                                                                                                                                                                                                    ألم تقتلا الحرجين إذ أعورا لكم يمران الأيدي اللحاء المصفرا



                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) أي : إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه ، فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد . وهذا أمر بعد الحظر ، والصحيح الذي يثبت على السبر : أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي ، فإن كان واجبا رده واجبا ، وإن كان مستحبا فمستحب ، أو مباحا فمباح . ومن قال : إنه على الوجوب ، ينتقض عليه بآيات كثيرة ، ومن قال : إنه للإباحة ، يرد عليه آيات أخر ، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه ، كما اختاره بعض علماء الأصول ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ) ومن القراء من قرأ : " أن صدوكم " بفتح الألف من " أن " ومعناها ظاهر ، أي : لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وذلك عام الحديبية ، على أن تعتدوا [ في ] حكم الله فيكم فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في كل أحد . وهذه الآية كما سيأتي من قوله تعالى : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) [ المائدة : 8 ] أي : لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل ، فإن العدل واجب على كل أحد ، في كل أحد ، في كل حال .

                                                                                                                                                                                                    وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، والعدل به قامت السموات والأرض .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سهل بن عثمان حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق ، يريدون العمرة ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم . فأنزل الله هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                    والشنآن هو : البغض . قاله ابن عباس وغيره ، وهو مصدر من شنأته أشنؤه شنآنا ، بالتحريك ، مثل قولهم : جمزان ، ودرجان ورفلان ، من جمز ، ودرج ، ورفل . قال ابن جرير : من العرب من يسقط التحريك في شنآن ، فيقول : شنان . قال : ولم أعلم أحدا قرأ بها ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                    وما العيش إلا ما تحب وتشتهي     وإن لام فيه ذو الشنان وفندا



                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات ، وهو البر ، وترك المنكرات وهو التقوى ، وينهاهم عن التناصر على الباطل . [ ص: 13 ] والتعاون على المآثم والمحارم .

                                                                                                                                                                                                    قال ابن جرير : الإثم : ترك ما أمر الله بفعله ، والعدوان : مجاوزة ما حد الله في دينكم ، ومجاوزة ما فرض عليكم في أنفسكم وفي غيركم .

                                                                                                                                                                                                    وقد قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس ، عن جده أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . قيل : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما ، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال : " تحجزه تمنعه فإن ذلك نصره " .

                                                                                                                                                                                                    انفرد به البخاري من حديث هشيم به نحوه ، وأخرجاه من طريق ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . قيل : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما ، فكيف أنصره ظالما؟ قال : " تمنعه من الظلم ، فذاك نصرك إياه " .

                                                                                                                                                                                                    وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا سفيان بن سعيد ، عن يحيى بن وثاب ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " .

                                                                                                                                                                                                    وقد رواه أحمد أيضا في مسند عبد الله بن عمر : حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن الأعمش عن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، [ قال الأعمش : هو ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم " .

                                                                                                                                                                                                    وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة وابن ماجه من طريق إسحاق بن يوسف ، كلاهما عن الأعمش به .

                                                                                                                                                                                                    وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة الكوفي ، حدثنا بكر بن عبد الرحمن ، حدثنا عيسى بن المختار ، عن ابن أبي ليلى ، عن فضيل بن عمرو ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدال على الخير كفاعله " . ثم قال : لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 14 ]

                                                                                                                                                                                                    قلت : وله شاهد في الصحيح : " من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " .

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن زبريق الحمصي ، حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن الحارث ، عن عبد الله بن سالم ، عن الزبيدي قال عباس بن يونس : إن أبا الحسن نمران بن مخمر حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مشى مع ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنه ظالم ، فقد خرج من الإسلام " .

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية