الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    حديث أبي ذر الغفاري الطويل في عدد الأنبياء عليهم السلام :

                                                                                                                                                                                                    قال محمد بن الحسين الآجري : حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الفريابي إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين ، حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني ، حدثنا أبي ، عن جده عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر قال : دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده ، فجلست إليه فقلت : يا رسول الله ، إنك أمرتني بالصلاة . قال : " الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل " . قال : قلت : يا رسول الله ، فأي الأعمال أفضل ؟ قال : " إيمان بالله ، وجهاد في سبيله " . قلت : يا رسول الله ، فأي المؤمنين أفضل ؟ قال : " أحسنهم خلقا " . قلت : يا رسول الله ، فأي المسلمين أسلم ؟ قال : " من سلم الناس من لسانه ويده " . قلت : يا رسول الله ، فأي الهجرة أفضل ؟ قال : " من هجر السيئات " . قلت : يا رسول الله ، أي الصلاة أفضل ؟ قال : " طول القنوت " . قلت : يا رسول الله ، فأي الصيام أفضل ؟ قال : " فرض مجزئ وعند الله أضعاف كثيرة " . قلت : يا رسول الله ، فأي الجهاد أفضل ؟ قال : " من عقر جواده وأهريق دمه " . قلت : يا رسول الله ، فأي الرقاب أفضل ؟ قال : " أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها " . قلت : يا رسول الله فأي الصدقة أفضل ؟ قال : " جهد من مقل ، وسر إلى فقير " . قلت : يا رسول الله ، فأي آية ما أنزل عليك أعظم [ منها ] ؟ قال : " آية الكرسي " . ثم قال : " يا أبا ذر ، وما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة " . قال : قلت : يا رسول الله ، كم الأنبياء ؟ قال : " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا " قال : قلت : يا رسول الله ، كم الرسل من ذلك ؟ قال : " ثلاثمائة ، وثلاثة عشر جم غفير كثير طيب " . قلت : فمن كان أولهم ؟ قال : " آدم " . قلت : أنبي مرسل ؟ قال : " نعم ، خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وسواه قبيلا ثم قال : " يا أبا ذر ، أربعة سريانيون : آدم ، وشيث ، وخنوخ - وهو إدريس ، وهو أول من خط بقلم - ونوح . وأربعة من العرب : هود ، وشعيب ، [ ص: 473 ] وصالح ، ونبيك يا أبا ذر . وأول أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى . وأول الرسل آدم ، وآخرهم محمد " . قال : قلت : يا رسول الله ، كم كتابا أنزله الله ؟ قال : " مائة كتاب وأربعة كتب ، وأنزل الله على شيث خمسين ، صحيفة ، وعلى خنوخ ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، وأنزل على موسى من قبل التوراة عشر صحائف والإنجيل والزبور والفرقان " . قال : قلت : يا رسول الله ، ما كانت صحف إبراهيم ؟ قال : " كانت كلها : يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور ، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردها ولو كانت من كافر . وكان فيها مثال : وعلى العاقل أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفكر في صنع الله ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب . وعلى العاقل ألا يكون ضاغنا إلا لثلاث : تزود لمعاد ، أو مرمة لمعاش ، أو لذة في غير محرم . وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه " . قال : قلت : يا رسول الله ، فما كانت صحف موسى ؟ قال : " كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح ، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب ، وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها ، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل " قال : قلت : يا رسول الله ، فهل في أيدينا شيء مما في أيدي إبراهيم وموسى ، وما أنزل الله عليك ؟ قال : " نعم ، اقرأ يا أبا ذر : ( قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربه فصلى . بل تؤثرون الحياة الدنيا . والآخرة خير وأبقى . إن هذا لفي الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى ) [ الأعلى : 14 - 19 ] .

                                                                                                                                                                                                    قال : قلت يا رسول الله ، فأوصني . قال : " أوصيك بتقوى الله ، فإنه رأس أمرك " .

                                                                                                                                                                                                    قال : قلت يا رسول الله ، زدني . قال : " عليك بتلاوة القرآن ، وذكر الله ، فإنه ذكر لك في السماء ، ونور لك في الأرض " .

                                                                                                                                                                                                    قال : قلت : يا رسول الله ، زدني . قال : " إياك وكثرة الضحك . فإنه يميت القلب ، ويذهب بنور الوجه " . قلت : زدني . قال : " عليك بالجهاد ، فإنه رهبانية أمتي " . قلت : زدني . قال : " عليك بالصمت إلا من خير ، فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك " .

                                                                                                                                                                                                    قلت : زدني . قال : " انظر إلى من هو تحتك ، ولا تنظر إلى من هو فوقك ، فإنه أجدر لك ألا تزدري نعمة الله عليك " .

                                                                                                                                                                                                    قلت : زدني . قال : " أحبب المساكين وجالسهم ، فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك " . قلت : زدني . قال : " صل قرابتك وإن قطعوك " . قلت : زدني . قال : " قل الحق وإن كان مرا " .

                                                                                                                                                                                                    قلت : زدني . قال : " لا تخف في الله لومة لائم " .

                                                                                                                                                                                                    قلت : زدني . قال : " يردك عن الناس ما تعرف عن نفسك ، ولا تجد عليهم فيما تحب ، وكفى بك عيبا أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك . أو تجد عليهم فيما تحب " . [ ص: 474 ]

                                                                                                                                                                                                    ثم ضرب بيده صدري ، فقال : " يا أبا ذر ، لا عقل كالتدبير ، ولا ورع كالكف ، ولا حسب كحسن الخلق
                                                                                                                                                                                                    "

                                                                                                                                                                                                    وروى الإمام أحمد ، عن أبي المغيرة ، عن معان بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة : أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر أمر الصلاة ، والصيام ، والصدقة ، وفضل آية الكرسي ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأفضل الشهداء ، وأفضل الرقاب ، ونبوة آدم ، وأنه مكلم ، وعدد الأنبياء والمرسلين ، كنحو ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                    وقال عبد الله بن الإمام أحمد : وجدت في كتاب أبي بخطه : حدثني عبد المتعالي بن عبد الوهاب ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، حدثنا مجالد عن أبي الوداك قال : قال أبو سعيد : هل تقول الخوارج بالدجال ؟ قال : قلت : لا . فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني خاتم ألف نبي أو أكثر ، وما بعث نبي يتبع إلا وقد حذر أمته منه ، وإني قد بين لي ما لم يبين [ لأحد ] وإنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور ، وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى ، كأنها نخامة في حائط مجصص ، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري ، معه من كل لسان ، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء ، وصورة النار سوداء تدخن " .

                                                                                                                                                                                                    وقد رويناه في الجزء الذي فيه رواية أبي يعلى الموصلي ، عن يحيى بن معين ، حدثنا مروان بن معاوية ، حدثنا مجالد ، عن أبي الوداك ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أختم ألف ألف نبي أو أكثر ، ما بعث الله من نبي إلى قومه إلا حذرهم الدجال . . . . " وذكر تمام الحديث ، هذا لفظه بزيادة " ألف " وقد تكون مقحمة والله أعلم . وسياق رواية الإمام أحمد أثبت وأولى بالصحة ، ورجال إسناد هذا الحديث لا بأس بهم ، وروي هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال الحافظ أبو بكر البزار :

                                                                                                                                                                                                    حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لخاتم ألف نبي أو أكثر ، وإنه ليس منهم نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال ، وإني قد بين لي ما لم يبين لأحد منهم وإنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور " .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وكلم الله موسى تكليما ) وهذا تشريف لموسى ، عليه السلام ، بهذه الصفة ; ولهذا يقال [ ص: 475 ] له : الكليم . وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن سليمان المالكي ، حدثنا مسيح بن حاتم ، حدثنا عبد الجبار بن عبد الله قال : جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش فقال : سمعت رجلا يقرأ : " وكلم الله موسى تكليما " فقال أبو بكر : ما قرأ هذا إلا كافر ، قرأت على الأعمش ، وقرأ الأعمش على [ يحيى ] بن وثاب ، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي ، وقرأ أبو عبد الرحمن ، على علي بن أبي طالب ، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وكلم الله موسى تكليما ) .

                                                                                                                                                                                                    وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش ، رحمه الله ، على من قرأ كذلك ; لأنه حرف لفظ القرآن ومعناه ، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن [ يكون ] الله كلم موسى ، عليه السلام ، أو يكلم أحدا من خلقه ، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ : " وكلم الله موسى تكليما " فقال له : يا ابن اللخناء ، فكيف تصنع بقوله تعالى : ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ) [ الأعراف : 143 ] ، يعني : أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا أحمد بن الحسين بن بهرام ، حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا هانئ بن يحيى ، عن الحسن بن أبي جعفر ، عن قتادة عن يحيى بن وثاب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما كلم الله موسى كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء " . وهذا حديث غريب ، وإسناده لا يصح ، وإذا صح موقوفا كان جيدا .

                                                                                                                                                                                                    وقد روى الحاكم في مستدركه وابن مردويه ، من حديث حميد بن قيس الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان على موسى يوم كلمه ربه جبة صوف ، وكساء صوف ، وسراويل صوف ، ونعلان من جلد حمار غير ذكي " .

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن مردويه بإسناده عن جويبر ، عن الضحاك عن ابن عباس قال : إن الله ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة ، في ثلاثة أيام ، وصايا كلها ، فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الرب ، عز وجل .

                                                                                                                                                                                                    وهذا أيضا إسناد ضعيف ، فإن جويبرا ضعيف ، والضحاك لم يدرك ابن عباس ، رضي الله عنه . فأما الأثر الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهما من طريق الفضل بن عيسى الرقاشي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : لما كلم الله موسى يوم الطور ، كلمه بغير الكلام الذي [ ص: 476 ] كلمه يوم ناداه ، فقال له موسى : يا رب ، هذا كلامك الذي كلمتني به ؟ قال : لا يا موسى ، أنا كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ، ولي قوة الألسنة كلها ، وأنا أقوى من ذلك . فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا : يا موسى ، صف لنا كلام الرحمن . قال : لا أستطيعه . قالوا : فشبه لنا . قال : ألم تسمعوا إلى صوت الصواعق فإنها قريب منه ، وليس به . وهذا إسناد ضعيف ، فإن الفضل هذا الرقاشي ضعيف بمرة .

                                                                                                                                                                                                    وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، عن جزء بن جابر الخثعمي ، عن كعب قال : إن الله لما كلم موسى كلمه بالألسنة كلها سوى كلامه ، فقال له موسى يا رب ، هذا كلامك ؟ قال : لا ولو كلمتك بكلامي لم تستقم له . قال : يا رب ، فهل من خلقك شيء يشبه كلامك ؟ قال : لا وأشد خلقي شبها بكلامي أشد ما تسمعون من الصواعق .

                                                                                                                                                                                                    فهذا موقوف على كعب الأحبار ، وهو يحكي عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل ، وفيها الغث والسمين .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( رسلا مبشرين ومنذرين ) أي : يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات ، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) أي : أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة ، وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه ; لئلا يبقى لمعتذر عذر ، كما قال تعالى : ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) [ طه : 134 ] ، وكذا قوله تعالى : ( ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم [ فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ] ) [ القصص : 47 ] .

                                                                                                                                                                                                    وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود ، [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين " وفي لفظ : " من أجل ذلك أرسل رسله ، وأنزل كتبه " .

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية