الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .

تفصيل لإجمال اقتضاه الكلام السابق ; لأنه لما قسم الكتاب إلى محكم ومتشابه ، وكان ذلك التقسيم باعتبار دلالة الألفاظ على المعاني ، تشوفت النفس إلى معرفة تلقي الناس للمتشابه . أما المحكم فتلقي الناس له على طريقة واحدة ، فلا حاجة إلى تفصيل فيه ، واقتصر في التفصيل على ذكر قسم من أقسامه : وهو حال الذين في قلوبهم زيغ كيف تلقيهم للمتشابهات ; لأن بيان هذا هو الأهم في الغرض المسوق له الكلام ، وهو كشف شبهة الذين غرتهم المتشابهات ولم يهتدوا إلى حق تأويلها ، ويعرف حال قسيمهم وهم الذين لا زيغ في قلوبهم بطريق المقابلة . ثم سيصرح بإجمال حال المهتدين في تلقي متشابهات القرآن .

والقلوب محال الإدراك ، وهي العقول ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى ومن يكتمها فإنه آثم قلبه في سورة البقرة .

والزيغ : الميل والانحراف عن المقصود : ما زاغ البصر ويقال : زاغت الشمس . فالزيغ أخص من الميل ; لأنه ميل عن الصواب والمقصود .

والاتباع هنا مجاز عن الملازمة والمعاودة ، أي يعكفون على الخوض في المتشابه ، يحصونه . شبهت تلك الملازمة بملازمة التابع متبوعه .

[ ص: 162 ] وقد ذكر علة الاتباع ، وهو طلب الفتنة ، وطلب أن يؤولوه ، وليس طلب تأويله في ذاته بمذمة ، بدليل قوله : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم كما سنبينه وإنما محل الذم أنهم يطلبون تأويلا ليسوا أهلا له فيؤولونه بما يوافق أهواءهم . وهذا ديدن الملاحدة وأهل الأهواء : الذين يتعمدون حمل الناس على متابعتهم تكثيرا لسوادهم .

ولما وصف أصحاب هذا المقصد بالزيغ في قلوبهم ، علمنا أنه ذمهم بذلك لهذا المقصد ، ولا شك أن كل اشتغال بالمتشابه إذا كان مفضيا إلى هذا المقصد يناله شيء من هذا الذم . فالذين اتبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله المنافقون ، والزنادقة ، والمشركون مثال تأويل المشركين : قصة العاصي بن وائل - من المشركين - إذ جاءه خباب بن الأرت - من المسلمين - يتقاضاه أجرا ، فقال العاصي - متهكما به - وإني لمبعوث بعد الموت - أي حسب اعتقادكم - ؟ فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد فالعاصي توهم ، أو أراد الإيهام ، أن البعث بعد الموت رجوع إلى الدنيا ، أو أراد أن يوهم دهماء المشركين ذلك ليكون أدعى إلى تكذيب الخبر بالبعث ، بمشاهدة عدم رجوع أحد من الأموات ، ولذلك كانوا يقولون : فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين .

ومثال تأويل الزنادقة : ما حكاه محمد بن علي بن رازم الطائي الكوفي قال : كنت بمكة حين كان الجنابي - زعيم القرامطة - بمكة ، وهم يقتلون الحجاج ، ويقولون : أليس قال لكم محمد المكي ومن دخله كان آمنا فأي أمن هنا ؟ قال : فقلت له : هذا خرج في صورة الخبر ، والمراد به الأمر أي ومن دخله فأمنوه ، كقوله والمطلقات يتربصن . والذين شابهوهم في ذلك كل قوم يجعلون البحث في المتشابه ديدنهم ، ويفضون بذلك إلى خلافات وتعصبات . وكل من يتأول المتشابه على هواه ، بغير دليل على تأويله مستند إلى دليل أو استعمال عربي .

وقد فهم أن المراد : التأويل بحسب الهوى ، أو التأويل الملقي في الفتنة ، بقرينة قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به الآية ، كما فهم من قوله : " فيتبعون " أنهم يهتمون بذلك ، ويستهترون به ، وهذا ملاك التفرقة بين حال من يتبع المتشابه للإيقاع في الشك والإلحاد ، وبين حال من يفسر المتشابه ويؤوله [ ص: 163 ] إذا دعاه داع إلى ذلك ، وفي البخاري - عن سعيد بن جبير - أن رجلا قال لابن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي . قال : ما هو ؟ قال : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون - وقال : - وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - وقال : - ولا يكتمون الله حديثا - وقال : - قالوا والله ربنا ما كنا مشركين .

قال ابن عباس : فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ثم في النفخة الثانية وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . فأما قوله : والله ربنا ما كنا مشركين فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون : تعالوا نقل : ما كنا مشركين ، فيختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك لا يكتمون الله حديثا . وأخرج البخاري ، عن عائشة : قالت : تلا رسول الله هذه الآية إلى قوله أولو الألباب قالت قال رسول الله : فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم .

ويقصد من قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه التعريض بنصارى نجران إذ ألزموا المسلمين بأن القرآن يشهد لكون الله ثالث ثلاثة بما يقع في القرآن من ضمير المتكلم ومعه غيره من نحو خلقنا وأمرنا وقضينا ، وزعموا أن ذلك الضمير له وعيسى ومريم ولا شك أن هذا - إن صح عنهم - هو تمويه ; إذ من المعروف أن في ذلك الضمير طريقتين مشهورتين إما إرادة التشريك أو إرادة التعظيم . فما أرادوا من استدلالهم هذا إلا التمويه على عامة الناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية